ألقى إلي برسالته وانصرف في استحياء وهو يطمع في رد مطمئن. لم تكن رسالة عادية ، بل كانت تعابيرا وهموما وانشغالات تعجز على حملها الجبال ، كيف بورقة وحيدة ملفوفة بعناية تضم آهات وأنات لم يعد مكان لها في الصدر الذي أصبح غير قادر على حملها و احتوائها ، لايفيد في هذا المجال تنميق اكلام .
حين تهزمك العطالة بكل جبروتها وتلقيك أرضا على الرصيف في أسوأ صورة وأنت تشكو الفاقة والعوز . فلامجال للكلام المدبج للزينة والذي لايحمل حلولا ولا نوايا صادقة.
لن أسترسل في الوصف مادام المشهد مأساويا يدمي القلب ،لن أنوب عنه في كل المشاعر والأحاسيس التي وصف بها وضعيته و لن تسعفني الكلمات. أجدني عاجزا في مواجهة سطور الكتابة وهي تطوقني بكثير من الأسئلة أمام إشكالية عميقة ، لماذا يكون قدر شاب بكل هذه الشواهد والدبلومات والخبرة ضائع بدون وجهة ولابوصلة تؤمن مستقبله وفي المقابل هناك عينات كثيرة لا محدودة من حالات التوظيف المشبوهة والتي تسطو بقوة العلاقة على مناصب ومكاسب لاتستحقها والباقي عرضة للضياع ولمستقبل مجهول ومظلم. لكي تكتب رسالة في آخر المطاف على شكل اعتراف بانهزامك أمام هذا الواقع المتعفن فهي شهادة نهاية مطاف من البحث وضمور طموح كان إلى عهد قريب متقذا لاينطفئ ، لقد استسلم لورقة وقلم بعدما طرق كل الأبواب ،يحشذ كل المفردات بكل قواه لعلها تنوب عن حضوره أمام المسؤولين ويحظى بالتفاتة أخيرة تنقذه من براثين الحاجة والفاقة.
قبح الله الفقر الذي أذل الرجال.
فتحت الرسالة فوجدتها ضجرة غير قادرة على البوح بكل مكنوناتها . متلعثمة في الكلام وكأن بها غصة ، كيف لا وقد أصابها العي من كثرة الكلام دون أن تظفر بنتيجة تذكر. استهلها صديقنا المعطل وهو يستثمر علاقتي به رغم محدوديتها كالآتي :
تحية لكم استاذي. أتمنى أن تكونوا بخير وكذلك العائلة.
اعرف جيدا انشغالاتكم الكثيرة ، اسمحوا لي لألتمس منكم وقتا وجيزا للإطلاع على رسالتي سأكون موجزا فيها قدر الإمكان وأنا أبسط بين أيديكم مطالبي الصغيرة في العدد الكبيرة في الأحلام. لأنني بكل بساطة ، لم أعد أطيق نظرات الناس لي ، من داخل البيت وأنا ممدد على سرير البالي في ركن ضيق من طرف أمي التي كلما إحتكت بي وهي تقدم لي طعاما تبدو حائرة بين نظرة عطف باكية وأخرى خجولة لاتكاد تدقق في سحنتي الذابلة حتى لاتسقط في إتهامي بالتواكل وكلتا النظرتين تأسراني بقلق شديد يجعلني أخفظ النظر استحياء.
أمي لاحول لها ولاقوة بعدما فارقنا أبي في لحظة غادرة وهو لايلوي على شيء وقد تركني صغيرا ولم أتمل بصورته كإبن يبحث عن قدوة يستند إليها ، أبي المرحوم الذي صدمته الحياة بكل تلاوينها فورثت عنه هذه الكآبة . تعبت يدي من نقر كل الأبواب حتى خلته نحسا يطاردني. كل الشواهد والدبلومات لم تجد منفذا لها بإدارة تحتضن كفاءتي. فعلا لقد هزمتني العطالة. وأقر بجبروتها. أرجوكم أستاذي أن تقدموا لي يد المساعدة ،ما أمكن فلم أعد أقو على البقاء عاطلا لمدة أطول. لقد اشتغلت في كل الخدمات اليومية من حارس سيارات إلى ماسح أحذيةثم بائع سندويتشات بعربة مجرورة مطاردة في كل الأزقة . أحس أن كل التعلم الذي تلقيته وكل الخبرة والمعلومات التي حصلت عليها لم تكن كافية لضمان مستقبل آمن. وبدأت أسائل نفسي لماذا يخون الواقع قدراتنا في التكوين ؟ ولماذا تكالبت علينا إرادات سياسية مغشوشة وخادعة في إجهاض أحلامنا.
أستاذي الكريم أبلغ من العمر أربعين سنة ولم أحصل على مهنة. شريفة ولم أكون أسرة فمتى سيستجيب القدر و الوطن على حد سواء ؟ لن أكون متشائما بالمرة لكنني لست متفائلا قطعا مادمت أشاهد قوارب الموت تحمل مهاجرين يوثقون رحلتهم بالصوت والصورة في نشوة يعتصرها الألم وهم يغادرون البلدة ،يلقون بكلمات قاسية مؤلمة تنال من كبرياء وطن وهم يرددون بصوت واضح لاغبار عليه :
“بعد تحية ووداع ،
والقاء سلام للأهل والأحباب والأصدقاء .
وزعوا اللعنة كاملة الأركان على كل من رئيس الحكومة والوزراء والبرلمانيين. ”
إنها إشارة كافية لوطن لانعيش فيه سواء. فرجاء إن بقيت فرصة إنصاف ، سأكون ممتنا لكم .
تحياتي.
ذ ادريس المغلشي.