إدريس الأندلسي
كان الإخراج متقنا من الناحية الفكرية و السياسية سنة قبل فبراير 2011 . شعر بعض أركان الدولة أن مواجهة التيار الإسلاموي تتطلب نوعا من التعبئة الانتقائية و حشدا لكل تيارات الفكر الحداثي. تحركت شخصيات خبرت فكر اليسار في سنوات سابقة و حاولت استغلال ” رأسمال ” تقبله الدولة في حلتها الجديدة. و كان ما كان من تنظيم لاحتفالات حقيقية من أجل تصالح مع تاريخ شهد صدامات حقوقية منذ بداية الاستقلال وصولا إلى محاكمات سنة 1977 و أحداث سنة 1981 و 1983 و غيرها من الأحداث التي صنعتها أجهزة في عهد وزارة قوية و مسيطرة وصفت بأم الوزارات.
كان إبن الشاوية إدريس البصري مفتشا للشرطة ترقى إلى رتبة عميد ثم مسؤول كبير فكاتب للدولة ثم أكبر وزير للداخلية أنتهت مهامه الكبيرة سنة بعد رحيل الملك الباني و المثقف الكبير الراحل الحسن الثاني. توالى الوزراء على ام الوزارات دون أن يكون لهم ذلك الوزن الذي كان لإبن سطات و الذي كان يصف مهمته بكل تواضع على أنه ” المرأة المنظفة ” داخل التركيبة الحكومية”. الرجل كان مهابا و مكروها في نفس الوقت. كبار رجال السياسة مثل عبد الرحيم بوعبيد و امحمد بوستة و عبد الله إبراهيم كانوا أكبر منه. لكن صغارهم من الدرجة الثانية كانوا يهابون عبثه بملفاتهم و بنوعية العلاقات التي ربطتهم به.
و بعد ذلك بدا، لوجوه العهد الجديد، أن الأمر يتطلب شكلا جديدا للتأطير السياسي. انطلقت عمليات الاستقطاب دون أن تحقق المطلوب. تم استقطاب تيار حقوقي لتأثيث مبادرة الإنصاف و المصالحة و تمت العملية بكثير من النجاح في ما سمي بالعدالة الإنتقالية. و لكن هذه العملية لم تخلق ديناميكية على المستوى السياسي. تم الاقتصار على تقرير هيئة الإنصاف و المصالحة و تم ترك حالة الصراع السياسي على ما كانت عليه. ظهر تيار جديد اتخذ لنفسه دورا سياسيا و حاول السيطرة على الساحة . أحداث ما سمي بالربيع العربي جاءت بحزب العدالة و التنمية لتضعه في خارطة أجبرته على التشارك مع من كانوا ينافسونه. و تغيرت الخارطة لتنتج حكومة يقودها العدالة و التنمية مع رئاسة فعلية و حضور ثقيل لحزب عزيز اخنوش الذي أسسه احمد عصمان سنة 1976. المهم هو أن 20 فبراير ” فرملت” مؤقتا طموحات كانت تكاد أن تعلن سيطرة كبيرة على المشهد السياسي. ظلت بعض فعاليات اليسار التي حبذت لأسباب شخصية أن تظل بعيدة حزب الأصالة و المعاصرة رغم اقترابها من مراكز و حصولها على بعض المناصب المجدية. و فضل البعض الآخر، و لأسباب شخصية أيضا، الانتماء لجسم سياسي جديد و متعدد الألوان و المشارب و الطموحات و المصالح و نوعية الأخلاق السياسية. و كانت رسالة الوديع الأسفي غاية في الوضوح عن التناقضات الداخلية حين غادر الحزب و خط خطابا فيه الكثير من الصدق.
و توالت الاختراعات السياسية و ظهرت كائنات غريبة تحولت إلى زعامات سيطرت على مقاعد في مجالس جماعية و إقليمية و جهوية. تراجعت أسهم حزب العدالة و التنمية بشكل مريب لا يمكن تفسيره بأسباب موضوعية مقنعة. صحيح أن هذا الحزب أخطأ مواعيده مع الإصلاح و حل معضلة الكفاءة، لكن مستوى تراجعه لا يمكن تفسيره بعوامل تنخر جسم كل الأحزاب المغربية. و يظل السؤال الجوهري هو: كيف تمكن حزب مشارك في الحكومة و مسيطر على أهم الوزارات على أن يسيطر على المشهد الحكومي و يتراجع حزب العدالة و التنمية إلى الوراء. الأمر لا تفسير منطقي له و لا تحكمه قواعد اعمال العقل. الأمر فيه كثير من تشويه لمبدأ التضامن الحكومي بالمفهوم الدستوري و السياسي لهذه الكلمة. ما معنى أن يتحول حزب يقود الحكومة إلى هدف لكل الاستهدافات حتى من طرف من كانت لهم أغلبية الحقائب في الحكومة. و هذا التساؤل لا يعني أن حزب العدالة و التنمية لم يقع في زلات من بينها سذاجة و غياب تجربة و ضعف تكوين سياسي لأغلب قياداته. ولكن لم تسجل على أغلب هذه القيادات هفوات تتعلق برغبات في الاغتناء غير المشروع خلال تحملهم لمسؤولية التدبير العام.
وحلت الثلاثية الحزبية لتكوين الحكومة و العديد من المجالس بعد انتخابات البرلمان في سنة 2021 . دخل حزب وطني قديم في تحالف حكومي مع الحزب الأول و الثاني و كلاهما من صناعة حديثة أتت في سياق تاريخي بدأت مراحله الأولى في بداية العقد السادس من القرن الماضي مع صناعة جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية التي لم تعمر طويلا رغم الصخب الذي رافقها. و انحلت بعد حالة الاستثناء سنة 1965. و لم تنتهي المحاولات لإعادة هندسة المشهد السياسي الحزبي على مدى العقود الأخيرة. أوكل إلى أحمد عصمان وصحبه تكوين حزب انشطر إلى جزئين سنة 1976، ثم انطلقت عملية إدارية لخلق حزب من طرف الراحل المعطي بوعبيد عرفت نفس الخسوف. و جاءت مرحلة التفكير في هندسة جديدة أريد لها أن تبدأ بالتفكير في ديمقراطية جديدة عبر ما سمي ب” ديمقراطيين جدد” و كأن المشكل الأساسي في ضعف المشهد السياسي سببه ديمقراطيون قدامى. و إنتهى الأمر إلى تبخيس العمل السياسي و اضعاف آليات الوساطة السياسية و النقابية و الجمعوية. و انقلب الشكل الذي قيل أنه جديد في التعامل مع الشأن العام إلى عامل اضعاف لعلاقة المواطن مع السياسة و مؤسساتها.
و هكذا تم الزج بالسياسة في مستنقع كل المحرمات و على رأسها الخلط بينها و بين التجارة. كما سجلت الممارسات الانتخابية ولوج غرباء، يحملون من المال الكثير و من العلم و التجربة القليل ،إلى البرلمان و إلى رئاسة الكثير من المجالس الترابية. و ها نحن نشهد اليوم تدخل السلطة القضائية لمواجهة من هم محل تهم قد تشكل ضربة كبيرة للممارسة السياسية بعد صدور أحكام في عدد من البرلمانيين و المسؤولين. لقد أصبح أمر تدبير المجالس و أمر الاغتناء غير المشروع و أمور أخرى حديث المواطنين في كل مكان و طفح الكيل و غادرت نخب البلاد سفينة السياسة تاركة الجمل بما حمل. و سيطر الضعف و الوهن على آليات الوساطة السياسية و النقابية و أصبحت السلطات الأمنية المسؤول الأول على تدبير أزمات الأسعار و الصحة و التعليم و غيرها. و الأمر لا يهم ” الأصالة و المعاصرة لوحدها بل أحزابا أخرى تأكدت من ربحية بيع التزكيات لمن تمرس على فنون شراء الأصوات.
صحيح أن الكثير من المواطنين البسطاء و حتى بعض الاطر البسيطة آمنت بخطاب بعض الأحزاب عن حسن نية، لكنها اليوم تكتشف بمرارة تورط جزء من قيادات أحزابنا في مستنقعات الفساد. هناك بعض المنتمين لهذه الأحزاب بدأت تشجب سلوكات قيادات حزبهم و هناك من اقتنع بضرورة تنظيف المشهد السياسي من كائنات حزبية شوهت التعامل مع المؤسسات و حاولت تحويل الممارسة السياسية إلى سوق للسلع المغشوشة و المجهولة المصدر. و بدأت تظهر الإجابات الواضحة عن أسئلة مشروعة عن سبب تراجع الثقة في المؤسسات و عن الاغتناء غير المشروع و عن تغييب الرد على السؤال الجوهري و الكبير ” أين توجد الثروة ” ؟
من تابع النقاشات التي تدور حاليا يجد أن الدولة يجب أن تمضي في تفعيل الدستور في مجال المحاسبة. الأمر لا يجب أن يعيد إنتاج ما قام به الوزير الراحل البصري و الذي تسبب في كارثة حقوقية. يجب أن لا ننسى أن الظرف الراهن صعب رغم ما يحدث من تقدم في مجال التغطية الإجتماعية. و لهذا نحتاج إلى فتح باب الأمل أمام المواطنين الذين غلبوا من طرف طبقة سياسية تعيث في الأرض فسادا و تغتني و تتبجح بثرائها غير المشروع و تشعل نار الفتنة. الكثير من أولي النهى يرون أن التعامل مع ملفات الفساد يجب أن لا تتحول إلى تصفية للحسابات و أن لا يطال الظلم من يخدمون الوطن بصدق و إيمان. تنظيف البيت الداخلي سيحمينا مستقبلا من دخول الفاسدين إلى مؤسساتنا. سيخافون من تجربة من سبقوهم و ظنوا أن القانون لن يطالهم و أن المحاسبة الجنائية لغيرهم و لن تكون ضدهم. الوطن أغلى من الجميع و صيانة كرامة المواطنين مهمة كل مسؤول. المواطنون ينتظرون خدمات من دولتهم و ليس هبات على شكل أموال أو رخص أو تحمل لنفقات طبية من طرف من تعود على شراء الأصوات خلال الانتخابات و عينه على ما سيجنيه من أرباح بالملايير. بلادنا على الطريق الصحيح. ” ألله يكمل بالخير “.