تعد ساحة جامع الفنا القلب النابض لمدينة مراكش، ومخزونها الثقافي الذي نسجت خيوطه عفوية أبنائها على امتداد تاريخها الطويل.لا أحد يعرف كيف بدأت ومتى ستنتهي وحده القدر ووحدها الصدفة يجعلانك تقف في هذه الحلقة دون سواها ،تيار غريب يجعلك تنتقل من مكان إلى آخر عبر الساحة مأخوذا بروعة المكان الذي يمتد مسرحا عفويا يستلهم ديكوره من عفوية الحياة وبساطتها، بينما أبطاله ينصهرون بشكل تلقائي في تقمص أدوارهم،هذا يفترش الأرض عارضا بعض الزواحف المحنطة،والآخر يقفز وسط حلقة بشرية متخطيا كل الحدود. مشاهد متنوعة تتفجر في دواخلك سيلا لذيذا يسري بك إلى عوالم لا تدرك حدودها وقبل أن تنسحب مكرها وأنت تتلفت وراءك يكون الفضاء قد أسرك وسرق لبك،وجعلك تقول في نفسك دون أن تدرك وقع الكلمات إنك لا بد عائد يوما إلى جامع الفنا.
شكلت جامع الفنا على مر العصور بالإضافة إلى الحركة الاقتصادية التي تميزها مسرحا كونيا لتقديم كل أنواع الفرجة وحلبة صراع وتحدي بين الرواة من منهم يملك الجرأة والوقوف وسط الساحة من يستطيع أن يطلق العنان لخياله فينطلق لسانه في سرد سير الأنبياء والأولياء من الأزلية والفيروزية فالعنترية وألف ليلة وليلة وغيرها من له القدرة على جعل البخيل يغوص في قعر جيبه المنسي ينتزع من داخله قطعة نقدية وهو يتلهف لسماع المزيد كلها تحديات رفعتها أجيال من الرواة منهم من رحل ومنهم من لا يزال على قيد الحياة يصارع المرض على الرغم من أن أفق الحلقة معروف في العديد من المناطق إلا أن مراكش تعتبر مهده وقد أجمع شيوخ الحلقة على أن جامع افنا يعتبر المحك الذي يختبر فيه الحلايقي قدراته الفنية ومن لم يستطع أن يقيم حلقته في ساحة جامع الفنا لا يمكنه أن يكون حلايقيا.
إن ما تقدمه جامع الفنا من مشاهد الفرجة جعلها تنفرد بنوع من الغرائبية ليجدها روادها مهرجانا شعبيا بامتياز من يلجها عبيه أن يترك منطق الأشياء لأن كل المتناقضات ستتراءى أمام عينيه وهي تتوحد مكونة مزيجا سحريا يكون من الصعب الإفلات من قبضته سيجد الكناوي في تناغم مع العيساوي بالقرب منهما الحوزي بجوار السوسي دق طبول أو دفوف وكلها تتحد لتعزف سمفونية غاية في الروعة لن يتوخى سماعها إلا في جامع الفنا بينما تقف الكتبية بعيدا تراقب المشهد كأنها مايسترو هذه الفرقة العفوية التي لا تمل و لاتكل.
سترى الأوربية و تجول بلباسها المتحرر جنبا إلى جنب مع المراكشية بخمارها الأسود هذه الأخيرة تحول سائلا أخضرا لزجا إلى رسوم تخطها على الذراع والكف وشما مؤقتا تحمله الأوربية إل بلدها كتذكار وخدر الساحة لا يزال يلازمها.
في الجهة الشرقية من جامع الفنا يجلس العشابون المنحدرون من جذور صحراوية أمام صفوف منتظمة من الزجاجات التي تحتوي على أعشاب طبيعية وزواحف محنطة وأخرى تتغير ألوانها حسب محيطها بعضها مربوط من أرجله والبعض الآخر تعب العشاب من إرجاعه كلما ابتعد ووحده العشاب يعرف مدى فوائدها. يبدأ جل العشابين عروضهم بعبارات تثبت واسع اطلاعهم بالأعشاب ما من ورقة نابتة إلا وتحتها حكمة ثابتة هذا الدواء طبيعي عشوب طبعيين كل عشبة بوحدها كاين اللي مطحون وكاين حبوب والإنسان إلى عندو شي مرض تنشوفو له المسائل ديالو عندنا التجارب وعندنا الكتب.
تتحول الساحة بعد غروب الشمس إلى مطعم كوني حيث تنتشر العديد من المطاعم الشعبية المتنقلة تجلب روائح أطعمتها الشهية وتجبر عبارات الترحيب التي تتقاطر على ألسنة أصحابها الزائر على تذوق طنجية مراكشية أو بعض من ” باولو ” هذه الأكلة التي سرقت اسمها من صاحبها الذي يبرع في تحضيرها حتى نسبت إليه كانت تتشكل في البداية من لحم الرأس قبل أن تنضاف إليها أجزاء أخرى من اللحم فيما بعد، أطعمة مختلفة توحد جميع الأذواق وتذوب كل الفوارق.