آخر الأخبار

سعيدة المنبهي العروس الحمراء …لم ينهي الموت حياتها

سعيدة المنبهي.. العروس الحمراء التي لم ينهي الموت حياتها :
عندما نُقّلب تاريخ اليسار، وذاكرته الحالمة التي اختزنت أكثر مما تحتمل أي تجربة سياسية أخرى من صنوف التعذيب والاعتقال والعطاء والتضحية في زمن الجمر والرصاص، نجد اسم سعيدة المنبهي لامعا مثل نجمة ساطعة في سماء حالكة، وباصما على تجربة شابة أحبت الحياة للجميع، فكان أن أهدت حياتها عربون لشعبها ومواقفها وأفكارها، اسم سعيدة الذي لا يذكر إلا ليقترن بـ “الشهيدة” استمر وسيستمر ذكره أطول من عمر جلاديها وسجانيها.
سعيدة المنبهي العروس الحمراء التي لم ينهي الموت حياتها، لأن اسمها ارتقى رمزا يستحيل أن يطويه النسيان، فرغم خفوت التجربة -التي أصبحت “حلما وغبارا”- التي انتمت إليها تحت السياط ووراء أبواب المعتقلات السرية والعلنية، إلا أن وصيتها “تذكروني بفرح” تركت أثرها فاستمر تذكرها في أوساط الشباب الثائر والراغب في التغيير بالساحات الجامعية وخارجها، غير أن هذا التذكر وخلافا للوصية لا يتم بفرح دائما، خصوصا أن استرجاع حياتها يحمل كثيرا من الألم الذي اعتصر أفئدة من جايلوها ومن لاحقوها.
سعيدة “وطن حر” كما غناها سعيد المغربي ذات ذكرى أربعينية حزينة، سعيدة “المرأة التي أحبت الضوء” كما قالها الشاعر عبد الله زريقة، وسعيدة التي “كتبت شعرها بأظافرها على حائط الزنزانة” كما كتبها عبد اللطيف اللعبي، هي نفسها سعيدة الشابة الثورية التي لم تهادن طيلة حياتها التي شاءت آلة القمع والاغتيال أن تكون قصيرة، والتي ارتبطت منذ حداثة سنها بالمظلومين والمقهورين ومن هم “تحت”، والتي دافعت عن الفلاح غير المالك لأرضه، وعن العامل الذي يراكم فائض القيمة لغيره، وعن المرأة التي تعيش الاضطهاد المزدوج، وعن حق الإنسان أينما كان في أن يعيش حياة عادلة.
من داخل زنزانتها كتبت سعيدة “أنا هنا لكي لا يكون هناك سجن غدا”، ورغم وجودها خلف القضبان، لم تكن تفكر في مصيرها كشابة مازالت في ربيع عمرها، بل كانت تفكر لشعب ربما أغلبه لم يكن يعلم بوجودها، لم يعلم لأنهم اختاروا له الجهل والفقر مصيرا حتميا، بينما اختارت له سعيدة الحق في التعليم بدون قيود والحق في الشغل والتطبيب والعدالة والحرية وغيرها من المطالب، التي لم تكن تنفصل في فكر سعيدة عن فطرة استنشاق الأكسجين لدى الكائنات الحية.
من رياض الزيتون حملت “عرش الزيتون”
في إحدى دروب حي شعبي بالمدينة الحمراء مراكش اسمه “رياض الزيتون”، فتحت عينيها أول مرة لتقطف “عرش الزيتون”، وتنشد أنغام السلام لشعبها طيلة الـ 25 ربيعا في حياتها، ذات يوم من سنة 1952 عندما كان المغرب مازال رازحا تحت أغلال الاستعمار، هذا الأخير الذي سيجدد نفسها ليضع نقطة النهاية في حياة المنبهي يوم 11 دجنبر 1977.
داخل أسرة مناضلة، تشرّبت سعيدة المبادئ والقناعات النضالية، فهي أخت عزيز المنبهي الذي ارتبط اسمه بالمؤتمر الخامس عشر، الذي وضع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في سكة اللاعودة مع النظام القائم حينها، وداخل تلك الأسرة أحبّت أن تنتصر للحياة وتحب الضوء للجميع.
من ثانوية العباس السبتي نالت سعيدة المنبهي شهادة البكالوريا سنة 1971، لتلتحق بمدينة الرباط لتبدأ دراستها الجامعية بشعبة الدراسات الإنجليزية بكلية الآداب محمد الخامس، وبعد إنهاء دراستها التحقت بالمركز الجهوي للتربية والتكوين بالمدينةنفسها، لتتخرج أستاذة للسلك الأول، وتشرع في تدريس اللغة الفرنسية بإعدادية الخوارزمي بالرباط.
سعيدة “الشهيدة”.. مسار نضالي
منذ التحاقها بالجامعة، كانت سعيدة المنبهي ناشطة في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، معروفة بحركيتها النضالية وصلابتها وثباتها على المواقف، في زمن كان للموقف ضريبة ثقيلة. ولأن النضال لم يكن له نهاية عند سعيدة، ستلتحق بعد تخرجها بنقابة الاتحاد المغربي للشغل، ولأنها لم تكن من النوع الذي يرضخ للخطوط الحمراء، انتمت سعيدة إلى العمل السري بمنظمة “إلى الأمام” الناشطة تحت لواء الحركة الماركسية اللينينة المغربية، لتنتمي إلى تجربة لم تأخذ قدرها من الاعتراف في التاريخ المغربي.
درب مولاي الشريف وسلاح الأمعاء الخاوية
مع بداية عمل الآلة المخزنية على اجتثاث الحركة الماركسية اللينينة المغربية، واعتقال المنتمين لها، ستكون سعيدة المنبهي من بين المختطفات يوم 16 يناير 1976، ليُزج بها في درب مولاي الشريف الذي مازال اسمه يرعب حتى هؤلاء الذين لم يمروا منه. قضت سعيدة ثلاثة أشهر بالدرب المشؤوم دون محاكمة، وتحت سياط القمع والتنكيل والتعذيب والأقبية الباردة والنتنة، تحت رحمة جلادين تمت برمجتهم على اللارحمة.
بعدها، ستنقل سعيدة المنبهي إلى السجن المدني بالدار البيضاء، لتنطلق أشواط محاكمتها بمعية المئات من رفاقها، ولتستمر بذلك فصول معاناة جديدة، عنوانها سلب الحرية، لكن سعيدة لم ترتكن إلى الزاوية، بل ظلت مرتبطة بقضية شعبها ومصدر قوة وأمل لرفاقها، وللسجينات اللواتي نسجت من قصصهن أشعارا خالدة ومقالات تطمح لنهاية الظلم والاستبداد.
ستخوض سعيدة إلى جانب رفاقها مجموعة من المعارك النضالية. ولأنها مجردة من كل سلاح، فقد اتخذت أمعائها الخاوية سلاحا، إسوة برفاقها ورفيقاتها، لتدخل سعيدة المنبهي في إضراب عن الطعام لفرض تاريخ المحاكمة، ليتم تحقيق مطلبها.
حكمت المحكمة عليها بخمس سنوات نافذة بتهمة الضلوع في أنشطة معادية للدولة، وأضيفت لها سنتين بتهمة إهانة القضاء، بعدها خاضت إضرابا ثانيا لا محدودا ابتداء من يوم 8 نوفمبر 1977 للمطالبة بالاعتراف بصفة المعتقلين السياسيين وتحسين ظروف الاعتقال وفك العزلة، لكن جسمها لم يستطيع أن يقاوم أكثر، لتفارق الحياة بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء يوم 11 دجنبر 1977.
من أشعارها الخالدة
كتبت سعيدة العديد من القصائد الشعرية والمقالات، وعلى سبيل الذكر نورد هنا مقاطع صغيرة من أشعارها تلخص جزءا صغيرا من شخصية فذة، بصمت على الخلود في ذاكرة محبيها وفي “ملفات التحقيق” بلغة محمود درويش.
“تذكروني بفرح، فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة، فإن روحي العاتية مخترقة لأسوار السجن العالية وبواباته الموصدة وأصفاده وسياط الجلادين الذين أهدوني إلى الموت. أما جراحي، فباسمة، محلقة بحرية، بحب متناه، تضحية فريدة، وبذل مستميت”.
وكتبت كذلك:
شرحت لك
يا صغيرتي
ليس كما شرحت لك ذلك المعلمة
إنهم لا يضعون في السجن اللصوص فقط
إنهم يسجنون أيضا الذين يرفضون
الرشوة
السرقة والعهارة
أولئك الذين يصرخون
كي تصبح الأرض
لمن يحرثونها”.