تميز أبو العباس السبتي برؤية مخصوصة لمعنى الدين في جوهره، حيث اختزل التدين الصحيح في سلوك الجود و الإنفاق… ليس الطريق إلى الله، في عرفه و مذهبه، في التزام العبادات و الشعائر، و إن كان لا ينكرها، و لكن الطريق السالك، هو في أن ينفق الإنسان و يجود بما يحب لغيره، ف ” لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ” …و أن طريق الجهل و الجحود هو سلوك البخل و التقتير و منع الماعون… و قد قال عنه ابن رشد حين علم بسيرته: ” هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود …”.
و قد أعطى الرجل عمليا في سيرته الكثير من أضرب الجود و الإنفاق، كتقرب من الله، فكان يجمع الصدقات للمجذومين المنبوذين في حارات مراكش الهامشية، و ” رتب للعميان نطاما للنفقة عليهم مع ترتيب أمر اغتسالهم في الحمامات عشية يوم الخميس، و حلق شعورهم مرة في الشهر، و طلب من جميع الإسفنجيين في المدينة أن يتصدقوا بملء المقلاة الأولى على المساكين، و طلب من تجار الزرع في الرحاب أن يبدأوا عند البيع بصاع يصدق على الأرامل، و طلب من الجزارة أن يلقوا بالعظام و فيها شيء من اللحم في مكان مخصوص يقصده الكلاب…” !! و غير ذلك كثير… و قد نجح نسبيا في ترسيخ هذه العادات الحميدة، إلى درجة أن الناس يتكلمون حتى يومنا هذا عن ” العباسية ” كعرف منسوب إليه…
لم يكن السبتي رجل فكر و نظر، فما سوغ و لا نظر لفكرته هذه، التي تدير أمر التدين على الإنفاق و الجود…لكن العديد من الفلاسفة ( ديكارت، اسبينوزا، يانكليفيتش، كونت سبونفيل…) وقفوا عند دلالة الجود الأخلاقية العميقة…
و يمكن القول اختصارا، أن فضيلة الجود تترجم ذلك التوق الذي يحرك الإنسان للسمو عن بهيميته: الجود – كما قال ديكارت – حرية، لأنه يحرر الإنسان من سفالة غرائزه الأولى الأنانية، التي لا يحركها إلا الأخذ، فينحصر في شرنقة ذاته، لا يرى غيره و لا يعبأ به، و إلا فيراه وسيلة أو منافسا…ينحط الإنسان بذلك إلى مستوى البهائم، و يكون ذلك باب النزول إلى كل السفالات …
منذ القديم، سعت الأديان – في منزعها الفطري الصحيح – ثم الفلسفة، إلى حث الإنسان على ” أن يتشبه بالآلهة على مقدار الطاقة الإنسانية” كما قال الرواقيون قديما…يعني ذلك حثه على مقاومة جاذبية الهوي إلى هاوية البهيمية في غرائزها الأولى، و أن ” يتزكى ” كما قال الصوفية…
بدا واضحا أن الشح و التقتير و الأنانية المرضية، الدرجة الأولى في سلم السقوط، و أن الجود و العطاء الدرجة الأولى في سلم الترقي و السمو…الشح مدخل ” الانفعالات السلبية ” بتعبير اسبينوزا، مثل الحقد و الضغينة و الحسد و الإحباط، و الإنفاق مدخل ” الانفعالات الفرحة ” كالحب و الإقبال على الحياة و احترام الذات…
و إذا كان الحديث عن الجود و الإنفاق يفهم بداية على الإنفاق المالي المادي، فإن رجال الدين و الفلاسفة، كانوا يفهمون الجود بمعنى أشمل: فقد يشمل الوقت و الجهد و العناية و الكلمة الطيبة و التعاطف مع الآخرين….الخ. و هو المعنى الذي نجده عند السبتي أيضا…
و نجد ذلك واضحا في اللغة الشعبية عند المغاربة: فهم يميزون أخلاقيا بين نوعين من الناس: ” الرعاوين ” ( جمع رعواني) و يقصدون بهم أولئك الأجلاف ، الأشرار ، عديمي الذوق…يقابلهم ذاك النوع الحساس من الناس، ذوو الشعور المرهف، و الحس الأخلاقي الرفيع، المترفعون عن الدسائس و السفاسف، و يسمونهم ” الجواد ” نسبة للجود…
جاء السبتي برؤيته هذه، في القرن الثاني عشر، بداية عهد الموحدين، عير أنه اليوم أكثر راهنية:
ذلك أن الحداثة قد حملت في ركاب تأسيسها، تنويها و تثمينا، أو لنقل شرعنة للنزوعات الفردية، و مشاعر التنافس و الأنانية، و دعت إلى التعامل مع الناس كما هم ( هوبس، ماكيافيل..)…و قد كان لذلك في حينه فوائد جمة من جهة تحرير السياسة و تحرير الفرد…
غير أن سياق التطور دفع إلى تطرف أفضى إلى ليبرالية متوحشة، نرى اليوم مظاهرها المقيتة ( صورة عبور الناس في الشارع الخامس بنيويورك لا يكادون يلتفتون للبؤساء المرميون على قارعة الطريق)، و هو انحراف خطير تنبه له مبكرا اسبينوزا و كانط و توكفيل، و انتقده مؤخرا فلاسفة مثل راولز و تايلور، و انتفض ضده بغضب كارل ماركس…
كلما أوغل المجتمع في سيرورة الحداثة، كلما تهدده التشظي إلى ذرات فردانية منغلقة على ملذاتها المبتذلة، المستعدة لكل النذالات من أجل تلبيتها، المشيحة بوجهها عن المدينة كفضاء للعيش المشترك، بما يتطلبه من قيم المواطنة، أي بعض التضحية، و بعض من الجود و الإنقاق..
و هو ما نلاحظ علاماته ما فتأت تستشري في مجتمعنا ، و تتزايد يوما عن يوم ( خذ نسبة التبرع بالدم مثلا، نسبة التطوع، الانخراط في النشاط المجتمعي…الخ) ..
اعتقدت دوما أن النهوض المجتمعي، يمكن أن يجد مداخل دينية، متى تم التوسل بالإصلاح الديني، و لعل شكل التدين الذي دعا له أبو العباس السبتي، أحد تلك المداخل الملكية…