ذ ادريس المغلشي
كنت في سنواتي الأولى من العمل بهيئة التدريس في أقاصي الجبال جنوبا حيث حكمت جغرافيا المنطقة ووعورة مسالكها على وجودي هناك بالقهر وكأنني أعيش منفى اختياريا مفتوحا مكنني لصعوبة التقاط الاذاعة وبرامج التلفزة على علاتها ورداءتها التي لم تصل لهذا المستوى المتدني الذي أصبحنا نعايشه اللحظة رغم وفرة الماديات وتدني المضامين .كل هذه الظروف الصعبة كانت حافزا لي لالتهم كثير من الكتب والجرائد تحت ضوء الشمع الذابل وهو يبادلني كآبة المكان مؤانسة وعشقا .في ظلمة الليل المترامي الأطراف ذكريات لاتنسى وأحداث تتوالى تستفز كينونتك بعدما غادرت عالمك الطفولي هناك حيث الشغب وحميمة المكان الذي مهما فارقناه يبقى موشوما في الذاكرة .
يوم السبت او “الويكاند” بلغة المغامرة و”تبدال الساعة “من أجل تكسير رتابة قاتلة بطلها الصمت والسكون الذي قلما تفزعه ناذرا عجلات السيارة الوحيدة بالدوار أو زمجرة سماء تسقط مطرا نديا لعله يضفي مسحة حنان على منطقة قلما تستقبل موسما بهيجا.وعويل وحوش ضارية. وضع مخيف يجعل قدميك رهينة بيت عشوائي وبضع أمتار من حوله .
ما أسعد اللحظة وأنت تعانق حقيبتك لتقصد وجهة المدينة فارا من جحيم لايطاق ! تسرع الخطى لتستفيدمن كل دقيقة وثانية من عمرنزهة قصيرة سويعاتها معدودة على رؤوس أصابع اليد لتروح عن النفس . لكن الجميل في الأمر بين حمام المدينة العتيقة وجلسة مسائية رفقة أصدقاء يعشقون كل فن ملتزم من متابعة مسرحية “كأسك ياوطن ” إلى نكث مستجدة في القطاع والساحة مرورا بأكلة شهية أعدها “باحسن” بحرفية عالية.ليلة ليست كالليالي يقرأ فيها الشعر الذي شكل متنفسا يحكي قهر الزمان ومقالات تصف مكر الظروف وحكايات بطولية انتصرنا فيها لذواتنا ونحن نعلن الثورة على كل شيء حتى نثبث وجودنا في عالم محافظ شديد الخصوصية وغيرها من الأحداث التي لاتنتهي وقد نبرمج لها حلقة قادمة هكذا دواليك. وكنا نقول بأعلى صوت :
” فلتحيا البروليتاريا المقهورة مادام راتبك لايكفي . دريهمات يصلبن طولك لتثبث قوامك و فحولتك على الكل …فلنحيا الحياة وليمت القهر تحت أعتاب سريري …” كنت أحرص على استنزاف زمنها الضيق بنهم شديد لأن مايستتبعها لامجال للمقارنة .
أمر صباحا مودعا الساحة وأنا حريص على اقتناء بعض الجرائد خصوصا جريدة ( l’opinion ) لاتابع مقالات المرحوم خالدالجامعي الذي يتميز بأسلوب راقي ومضامين جادة .كنت أسعى لأتمرن على استيعاب بعض مفرداته العصية على الفهم وأستمتع بتحليله للأمور بجرأة قل نظيرها .هكذا هو لم يبدل توجهه ولا أسلوبه ولم يغير .ينتفض في كثير من المواقف ليصطف إلى جانب الحق. يقول كلمته دون مكياج ولامجاملة كيف لا وهو يستمد هذه القوة من عائلة سياسية كبيرة . مايثيرني في حواراته الثقة في النفس والمواجهة التي يتطلبهاالموقف. أغلب تصريحاته تعري الواقع السياسي وانتهازيته ووصوليته. يضع أصبعه بشكل قوي ومباشر حد الوجع على أمراض فتاكة فتترك فينا ألما وصداعا حتى لانفكر في تأجيل الحل والوصفة البديلة .لكن مع كل أسف كثير من كلامه ضايق البعض لأنه صريح لدرجة الإحراج .المرحوم خالد الجامعي أحد رموز هذا البلد لن اتمكن من سبر أغوار شخصيته وخلفياته الفكرية الغنية لأنها بكل بساطة تحتاج لمتخصصين يسلطون الضوء على فكره .رجل وطني يحب وطنه ويسعى بكل الطرق لإسعاده لم يهادن .
قدرنا أن تتوارى أسماء فذة وكبيرة شكلت مرجعا في الرؤيا والتحليل لنا كمتتبعين .كنت في كثير من الأحيان أستأنس برأيه كلما استجد حدث. لعلمي بعمق تحليله .وأنا أدرك في كثير من الأحيان أن المرحوم لاتتم دعوته للبرامج المباشرة لجرأته ووضوح مواقفه. ويكفيه شرفاحب الناس واحترامهم له لوطنيته وعشقه لتربة بلده ووضوح سريرته في الرأي . ظل وفيا ومات صريحا في مواقفه شامخا
كل شرفاء وطني لايموتون لأن الذاكرة لاتخون العهد بل تصون الوفاء وتحفظه . رحمات ربي عليك خالد الجامعي .