صدر حديثا بمبادرة نخبة من أعلام الأدب والإعلام والثقافة بفاس كتاب احتفائي بالمسار الإبداعي والفكري للشاعر محمد السرغيني، بمثابة اعتراف وتكريم لأحد رموز التاريخ الأدبي الحديث للعاصمة العلمية، وللمشهد الشعري المغربي بصفة عامة. “محمد السرغيني..جمالية الخلق الشعري” يجمع في 214 صفحة شهادات من تلامذة ومجايلين للشاعر وحوارات ومختارات من قصائد أحد رواد الحداثة الشعرية في المغرب، أعدها للنشر الناقد ادريس الواغيش الذي يقر بصعوبة الإحاطة بتجربة طويلة في كتابة الشعر تجاوزت السبعين سنة.
ذلك أن السرغيني نشر قصيدته الأولى في مجلة “الأنيس” التي كانت تصدر من تطوان عام 1948 مسار طويل صاحبه عطاء غزير في المجال التعليمي حيث مارس التدريس في مختلف الأسلاك التعليمية وصولا الى الجامعة التي أنهى مساره المهني بها أستاذا للأدب العربي في كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز.
يقول ادريس الواغيش إن الكتاب التفاتة امتنان وتقدير لمسيرة إبداعية وفكرية طويلة من التأمل وقراءة المرجعيات الغربية الكبرى في الفلسفة والفكر، لذلك يبقى فهم لب المعاني في شعر السرغيني العميق من الصعوبة بمكان، تتطلب عتادا معرفيا رفيعا، لأن الشعر عنده “ليس عملا عاطفيا” كما يقول هو نفسه، بقدر ما هو فعل “فلسفة وفكر وتعمير وإعمار”.
ويرى معد الكتاب أن السرغيني اختار الطريق الطويل والصعب، الموسوم بالعلامات والرموز، التي تجعله محلقا بين التراث والحداثة، بلغة يندرج فيها ما جد وما قدم من مفردات ومصطلحات المعاجم اللغوية شرقيها وغربيها، مما جعل منه “رائدا للشعر المغربي الحديث وشيخا له بشهادة الجميع، يطور أساليبه في كل مرة، حتى أدرك الثورة على كل القوانين الشعرية المعروفة من وزن وقافية، لينتقل الى ما هو رمزي تأويلي محض في القصيدة”.
يستعيد الكتاب من خلال تجربة السرغيني سيرة مخاض عصامي وفردي، فقد بدأ طالبا في جامعة القرويين يدرس النحو والبلاغة والصرف وانتهى به المطاف أستاذا جامعيا يدرس السيميائيات ويوظف الفلسفات والمعارف الغربية.
يبرز في قائمة من دبجوا شهادات في حق السرغيني، اسم الشاعر عبد الكريم الطبال الذي وصف رفيقه بمنارة شعرية مغربية “يحق لنا أن نستضيء بنورها” مستعيدا قصة علاقة انسانية وشعرية تمتد إلى أواسط الخمسينيات.
ومن جانبه، يضع الشاعر محمد علي الرباوي المحتفى به على رأس تيار ارتبط شعره بالتراث العربي لكنه فتح نوافذ على الابداع العالمي. السرغيني، يقول الرباوي، “ترك بصمته على ما كان يسمى شعراء فاس بعد أن تخرجوا من الجامعة”، وهدأت في شعرهم حدة الإديولوجيا، على غرار بنطلحة وبنيس وبلبداوي وغيرهم.
وهو يجد في شعر السرغيني “فسيفساء من الثقافات والفلسفات والفنون، مع حضور الثقافة المغربية من تاريخ واجتماع، حضورا مخبأ بين ثنايا لغته”.
ويبدو السرغيني في عين محمد العياشي الكنوني رائدا من رواد اتجاه الكثافة على الصعيد العربي عامة، والعديد من نصوصه يصعب تنميطها. لقد جاء شعره “عصيا يمتح قيمه من أصول ضاربة في العمق والتجريد”.
ويسجل عبد السلام الزروالي، أحد تلامذة السرغيني، أن الغموض هو السمة البارزة في شعره، إذ “يجد القارئ صعوبة في فك طلاسم الكتابة عنده. كتابة تنشد الفرادة والتميز. كتابة اتخذت من الصوفية توجها صريحا يغلب المعرفة القلبية على العقل”. ويعتبر الزروالي أن عزوف السرغيني عن الصخب الإعلامي حال دون تسليط الأضواء على ريادته في درب الحداثة الشعرية المغربية.
وكشف محمد السعيدي عن جوانب من علاقة الراحل محمد شكري بالسرغيني ملاحظا أن صاحب “الخبز الحافي” كان يبدي الامتنان للسرغيني الذي اعتبره “معجما لغويا” قائم الذات بالنسبة له.
وباسم جيل لاحق من الشعراء المغاربة، يستحضر محمد بودويك من خلال القارة الشعرية للسرغيني “التقاء الشعر بالفكر وقدرة مبهرة على الكشف والغوص في عوالم اللغة والفكر والشعر وباقي أجناس الفن والأدب. مدرسة قائمة الذات”. بودويك يسجل أن الشاعر أقام صرحه على نقطتين أساسيتين: “عقلنة الشعر ووجدنة الفلسفة”. وهو لا يتردد في وضعه في هذا الأفق الى جانب رواد من حجم إزراباوند وأدونيس ومحمد عفيفي مطر.
وفضل الشاعر عبد الكريم الوزاني، من جانبه، الاحتفاء بالعطاء الأدبي والفكري للسرغيني، “أستاذ الجيل”، من خلال قصيدة عمودية بعنوان “عرائس الشعر”.
وتحدث الصحافي محد بوهلال في هذا الكتاب الذي تصدرته لوحة تشخيصية للمحتفى به من إبداع الفنان العراقي خالد حسين، عن ثالوث جمعه عشق الشعر والموسيقى وفرقه الموت في إشارة إلى علاقة محمد السرغيني بالراحلين الملحن عبد الرحيم السقاط والمغني محمد المزكلدي.
ولد محمد السرغيني عام 1930 بفاس، حصل على إجازة في الآداب من جامعة بغداد عام 1959، وشهادة الأدب المقارن من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1963 ثم دكتوراه الدولة من السوربون سنة 1985. من دواوينه “بحار جبل قاف” (1991)، “وجدتك في هذا الأرخبيل” (1992)، “من فعل هذا بجماجمكم” (1994)، “من أعلى قمم الاحتيال” (2000)، “فوق الأنقاض، تحت الأنقاض” (2012). وقد ترجمت أشعاره الى الفرنسية والاسبانية.