جليل طليمات
أتقاسم معم ومعكن هذه الشهادة عن شقيقي الراحل أحمد طليمات بمنسابة الذكرى الأولى لرحيله , وقد صدرت ضمن كتاب تذكاري أصدره مركز التنمية لجهة تانسيفت بمراكش ساهم فيه أصدقاؤه ورفاقه بشهادات عن أحمد المثقف والمربي والمناضل والأديب المبدع , وبقراءات في أعماله الإبداعية .
ها أنا أستسلم أخيرا لحقيقة موتك, وأحاول هنا, استيعاب هذه الحقيقة بخط كلمات ظلت مستعصية على أناملي, ترفض الحديث عنك بمفردات الفقد والتأبين والغياب. نعم , الموت هو الحقيقة اليقينية للوجود التي كلما تجاهلها المرء, كلما كانت صادمة وموجعة له أكثر وأكثر., لم أجد ماهو أيسر وأخف إيلاما من وصية أمنا حليمة, كما صغتها شعريا في ديوانك ” لحاءات حليمة.. وللحروف شمائل”, كمدخل للحديث عنك بصيغة الغائب:
“وكما الماء.. يكون في الخزف المقطرن
كن بلون
كن بطعم
وكن برائحة
بهذا أوصتنا حليمة ”
وكذلك كنت يا شقيقنا الأكبر, ذا لون وطعم مميزين, ورائحة تريح النفوس, تنفثها في كل من عاشروك أخا وزوجا وأبا وصديقا ورفيقا ومربيا ومناضلا ومبدعا. إن ما خلفه رحيلك المباغت من حزن عميق وواسع لدليل يشهد على الحب والاحترام والتقدير الذي يكنه لك جميع من عرفوك ورافقوك في مختلف مسارات حياتك الثرية بالتجارب والعطاء. وفي هذا السياق أجد من واجبي أن أتوجه باسمي واسم عائلة طليمات وأسرته الصغيرة ممثلة في زوجته الفاضلة فاطمة غاندي وابنته الوحيدة الغالية غادة , بجزيل الشكر والامتنان على ما تلقيناه من طرف مختلف الفعاليات الثقافية والسياسية والحزبية والجمعوية والإعلامية من مواساة صادقة وعميقة . والشكر موصول كذلك لكل من ساهموا في الإعداد المادي والتقني لهذا الكتاب التذكاري وأخص بالذكر مركز تنمية جهة تانسيفت ,وأصدقاء ورفاق الفقيد الذين ساهموا بمقالات حول الإنتاج الأدبي الإبداعي لفقيدنا ,وبشهادات تعكس في مجموعها مكانة أحمد في قلوب وذاكرة جميع من جمعتهم معه علاقة في مجال ما من مجالات فعله المتنوعة التي بصمها بحضوره الإشعاعي المتميز, وبعطائه السخي .
فما الذي يمكنني أن أضيفه إلى ما جاء في تلك الشهادات الصادقة التي تشكل نصوصا أدبية نموذجية في ثقافة الاعتراف: الاعتراف بما ميز المسيرة الحياتية لفقيدنا أحمد من عطاء لامحدود في مجالات الثقافة والتربية والتعليم ,وفي حقل الممارسة السياسية والنقابية والجمعوية ,واعتراف أيضا, بما اتصف به في مختلف هذه الواجهات من انفتاح وتواضع وإيثار وتسامح وقبول راقي بالاختلاف ؟ إن هذه الشهادات لتشكل بحق وثيقة ميلاد جديد ومتجدد لأحمد طليمات, ميلاد يصدق عليه قول نيتشه ” إن بشرا يولدون بعد وفاتهم” .
إن ما سأدلي به هنا, هو مجرد هوامش تعزز شهادات أصدقائه ورفاقه , فتفصيل القول عن شقيقي الأكبر أحمد يتراكب ويتداخل مع سيرة مشتركة جماعية (عائلية), شكل أحمد فيها عصب العائلة وعميدها , ومهما حاولت الآن ذلك فسأظل عاجزا عن الإحاطة بجميل أحمد علينا كإخوة وأخوات, وعن إبراز مختلف تجليات الصدق الذاتي والإيثار المثالي اللذين اتصفا بهما في علاقته بنا , وأثرا, بالتالي في تنشئتنا .
ولأن الكتابة عن سيرة أحمد طليمات لها عناوين متعددة لا يسع المجال والمقام هنا لتفصيل القول فيها , فسأكتفي ببعضها باقتضاب وتكثيف:
1_ أحمد القراء (بفتح القاف و تشديد الراء) : صورة أحمد الراسخة في المخيلة الجمعية لكل من عرفوه فتى وشابا وكهلا ,وفي الذاكرة العائلية المشتركة,هي إقباله الشره على القراءة, فهو دائما حامل لكتاب أو متحدث عن كتاب أنهى قراء ته ,أوباحث في المكتبات عن إصدارات جديدة ( مؤلفات فكرية وأدبية , ومجلات مشرقية ومغربية..) , وبسبب ذلك كان بالنسبة لنا نحن إخوته موردا ثقافيا لاينضب, فمنذ صغرنا نهلنا من مكتبته ما يزيد بكثير عن حاجاتنا المدرسية والدراسية : روايات من الأدب العالمي , قصص, مجلات مشرقية ومغربية .. فتعرفنا مبكرا على سارتر, وديستوفسكي ومكسيم جوركي وتولستوي .. الخ, وعلى أعمال جبران خليل جبران ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وسلامة موسي وفرح أنطوان وطه حسين..الخ ,و في مرحلة السبعينيات اغترفنا من مكتبته المتجددة من ما وقع بين أيدينا من مؤلفات ماركس وأنجلز ولينين, وغارودي وماركوز, وإصدارات غالي شكري ومحمود العالم وجورج طرابيشي وطيب تزيني ..والقائمة طويلة , وبقي إلى حين رحيله ملتزما بشكل “حنبلي” بطقس القراءة, وبمسايرة الجديد في الإنتاج المعرفي المعاصر مع العودة إلى المؤلفات التراثية العربية والإسلامية. وهكذا ,فلا تخرج جل أحاديث أحمد مع الأصدقاء ومع إخوته عن آخر ما قرأ, وآخر قصيدة كتبهما أومشروع قصة قصيرة ,إذ كان يحكيها لنا أحيانا بشخوصها وحبكتها وصورها الساخرة قبل أن تصبح حروفا وكلمات ومجازات وصور نثرية وشعرية بالمداد أو مرقونة , حتى وهو يمارس هواية المشي ,كان يحمل معه كتابا ومذكرة وقلما , فيختلي “بعقله ومخيلته” ويشرع في محاورتهما والقلم بين أنامله يخط مشروع أقصوصة أو قصيدة , فتتحول بذلك جولة أحمد المشاء إلى “خلوة إبداعية” أثمرت الكثير مما نشره من إصدارات .
حقا, لقد كان شقيقنا أحمد معلمنا الأول الذي زرع فينا شغف القراءة وحب المعرفة, إنه مدرستنا الأولى التي تلقينا فيها, بصمت وتلقائية معاني الحرية والالتزام, وتشبعنا فيها بقيم العقل والحرية والمواطنة.