آخر الأخبار

صحافة البيتبول – 2 –

سـعـد سـرحـان

وفي حلقة أخرى، ذهبت الشاعرة سكينة حبيب الله نفس المذهب تقريبًا. وكم كانت عميقة وهي تتساءل عن جدوى تكريس الاسم. وهو التساؤل الذي أستأذِنُها في إهدائه إلى كل الذين ارتكبوا فظاعات وجرائم لأجل أسمائهم، فإذا هي الآن مضرّجة بالنسيان.ولَكُم أن تسألوا جُهينة لماذا وافق عبد الرحيم سُكينةْ….ثم جاء العهد الجديدْ
وتراجع اليأسُ
وخَفَّ البأسُ
(أقصد اليدَ الحديدْ)
ودخلت الرساميلُ
وتنوّع التمويلُ
وتسيَّدتِ الشاشاتُ
والإعلاناتُ
وصارت للأخبار مصادر كبرى
فطفحت الصحافة الأخرى
وباتت لنا جرائد متعدّدة الألوان، وبخطوط تحرير أين منها خطوط العَرْض وخطوط العَيْر، وهي الألوان والخطوط التي تشكّل هذه اللوحة التي لا تحتاج إلى مرآة كي تشمئز من نفسها. فغطّت على الجرائد الحزبية جرائدُ حربية يشنّها من ترويساتهم الحصينة جنيرالات مدنيون مطمئنون إلى شركائهم في حلف الكَاطو. كما غطّت على الجرائد الصفراء جرائد حمراء وقودها القتل والاغتصاب والدعارة… أما الأسارير فقد أصبحت خطوطَ تحرير لا تُشق لها جبهة. فهذه الأخيرة، وبالمعنى المغربي الدارج، كانت حجر الزاوية لغير قليل من المؤسسات الصحافية. فلا عجب أن يختلط على بعضهم النقل بالنشل، والاقتباس بالاختلاس، والمصدر بالمخبر، والفضائل بالفضلات، فالأخلاق الحميدة بالأخلاق الحميرة… إذ لا يضير الواحد منهم أن يحيا في بحبوحة من الغش تضمن له أن يرفل في بحبوحة من العيش.وإذا كان الأستاذ محمد البريني، وهو من هو في أهل مكّة، قد لخَّص ما أذهب إليه في عبارة جامعة مانعة: “الصحافة في المغرب ترتكب كوارث”، فإن العديد من قرّاء هذه الورقة، ومنهم صحافيون بكل تأكيد، يتبادر إلى أذهانهم هذا الشَّخْشْ أو ذاك من أصحاب تلك الكوارث كما من أبطال الفقرة السابقة، مع أنني لم أشرّف أحدًا منهم بذكر اسمه.فثمّة من الكوارث ما هو عفوي، ويُرتكب عن جهل أو سوء تقدير، كأن يجد شاعر مُكَرَّس، أصدر عدة كتب من بينها أطروحته لنيل دكتوراه الدولة، نفسَه محشورًا في بريد القرّاء، لمجرّد أن المحرّر الثقافي حسير الاطّلاع.وثمّة منها ما هو مقصود، كأن ينشرالصحافي تحت اسمه ما قرأ لا ما كتب، أو ينقل عن غيره دون إذن أو ذكر للمصدر، أو كأن يسطو هذا الشخصْ على روح ذلك النصْ، ثم يُلبسه بعضًا من جسده كيلا يسعى مثل اللصْ.وثمة من يأكل الغلة ويسميها باسم غيرها، كأن يختم وجبته بالخوخ ويسميه برتقالًا في خيانة غذائية لا تُهضم بسبب ارتفاع حامض الجحود، إذ لا يعقل أن يسوق المرء فقرة كاملة لسعد على أنها لعبد الحق، ليس فقط لأنهما لا يكتبان بنفس اللغة، بل لأنه لم يستعدها من الذاكرة، وإنما من الإنترنت التي حتى لو أَدخل كل عبيد الحق وعباده لما خرج منه بذلك الباطل. وللمزيد من المجهولات، ابحثوا في غوغل عن أخبار البوم، بالباء مع سبق الإضرار والبادئ أظلم.وبعيدًا عن هؤلاء وأضرابهم، هنالك آخرون جعلوا من الأغاني الوطنية الركيكة وقصائد عيد العرش الدّارسة خطًّا تحريريًّا لا يحيدون عنه. فإذا العمود الفقري اليومي للواحد منهم، وهو عمود بفقرات، طافح بذلك النخاع المعروف بالتملق. ولست أعرف أيَّ نوع من الشجاعة هذا الذي يمنع المرء من أن يقول هأنذا، بدل أن يتّخذ من الوطن درعًا لا يظهر من ورائه إلا ليُخرج للناس لسانه.صحيح أن المغرب أكبر من الجميع كما يردّد صاحبنا حتى دون مناسبة، وهو فعلا كذلك من حيث المساحة والسن طبعًا. لكنه قد يتقلّص إلى أصغر مما يُتخيّل. فحين يسجل المغرب هدفًا في مباراة كرة قدم، فالمقصود بالمغرب ليس 30 مليون من البشر ولا 750 ألف كلم مربع من الأرض، وإنما هو فقط بضع سنتميترات مربعة من حذاء لاعب مغربي قد يكون مزدوج الجنسية. وحين يفوز بميدالية أولمبية، فهو بضع شعيرات من مقدمة رأس عدّاء مغربي. كما أنه هذا الفذ أو ذاك ممن يحملون جيناته كلما تُوِّج بجائزة مرموقة أو منصب أكاديمي كبير. والحاصل أن المغرب بلا مغاربة لن يجد حتى من يسمّيه فأحرى أن يرفع رايته.
أما الذين يُشهرون الوطن مع أول سوء تفاهم كأنه مُدية، ويُضْفون صفة الوطنية على كل ما يريدون تمريره، وكأنَّ الوطنية مرهم يُسهِّل الإيلاج، فلن نُفاجأ أبدًا إذا ما كتبوا عن الدعارة الوطنية والحشيش الوطني والجفاف الوطني… فمع هذا الشطط في استعمال الوطن، لن ننتظر طويلا ظهور الرّويبضة الوطني، فشيوع التطرف الوطني.
ليس أحدًا
هذا البلدْ
لكنه
ليس لا أحدْ.
وكما للشعراء طبقات، للصحافيين طبقات أيضًا. وما أشبه أسفل تلك بأسفل هذه. فمع تكاثر المعاهد الخاصة وخرّيجيها، وتعدّد الجرائد الحزبية و”المستقلة” والجهوية… والتسهيلات التي باتت تتيحها الإنترنت، وظهور المصادر التي لا تُكَذّب لها أخبار، ستجد الصحافة نفسها وقد تحوّلت إلى هرم واطئ بسبب قاعدته التي تحتل معظم الساحة.في تلك القاعدة، نجد هذا النَّشْءَ الذي بدأ يغزو رأس الصحافة، تمامًا كما يفعل النَّمْءُ برأس مهمل، فلا تقرأ للواحد منهم سطرًا دون أن تهرش رأسك سطورًا. كما نجد بعض فلتات الظهر، فللظهر فلتات تتخلق في الأمعاء الغليظة، فما إن تتحرّر منها حتى تُفغم الجوار بتلك الرائحة. وهنالك طبعا من لم يسبق له أن كتب بخط اليد، إذ بدأ مباشرة بالكلاشينكوف، عفوًا، بالماكنطوش، فلا يفرق بين الزر والزناد، النقرة والطلقة عنده سيان، طالما أنه يكتب بالحبر الزعاف. هؤلاء وأضرابهم، ممن تعكس سيوفهم مع من قلوبهم، يقضون سحابة العمر في تسلق حبل الكذب نحو مجد بارتفاع فزاعة في حقل غير ذي زرع، فإذا ألمّت بالصحافة ملمّة، نافسوا بعضهم في ذرف دموع السحالي.الأرجح أن شيخ المعرّة لم يسمع بالبيتبول ونحوه، ولا عرفت الأعراب قبله بمثله، وإلا لكان رفع العدد إلى أكثر من سبعين، وكانت اجترحتِ الفعل “تَبَتْبَلَ” عوض تكالب، فهو أكثر شراسة، ولعله الأكثر تعبيرًا عما يحدث الآن من هجوم على الأشخاص في الشوارع وعلى الأعراض في الجرائد.ولنا فقط أن نرى ما فعل البيتبول مع “الحرية الآن” و”الحرية أمس”، في شخص كلٍّ من المؤرخ المعطي منجب والشاعر عبد اللطيف اللعبي. فرئيس مركز ابن رشد للدراسات نال بعضًا مما نال ابن رشد شخصيًّا من أسلاف هؤلاء، حتى أن أحدهم، والذين معه، نشر جردًا دقيقًا بالأنشطة المالية للرجل لمدة سنوات، مع أنه لا يستطيع فعل نفس الشيء حتى مع مصاريف الحاجَّة أو المدام لمدة أسابيع، فيما ذهب مبدعو الشر أبعد مما ذهبت مخيلة الشاعر، فجعلوا شجرة الحديد تثمر سكاكين وسيوفا في الشوارع كما في الصحافة، فكان للحالم الكبير، مرة أخرى، نصيب من الكابوس. فهل كان مجنون الأمل، الذي أسس “أنفاس” حين كان حليب السباع كامل الدسم، في نظام يهتمّ بقياس الأنفاس أكثر مما يهتم بمقاييس الأمطار، هل كان يتوقّع هذه الزواحف التي يطعمونها بيض الجوارح حتى تلاحق أجنحة الحرية حيثما حلّقت؟ وهل يعلم هؤلاء أن عبد اللطيف اللعبي تمّ الإفراج عنه إثر صدور كتاب بعنوان “من أجل عبد اللطيف اللعبي، من أجل الحرية”، وهو من تأليف مائة وخمسين كاتبًا من مختلف أقطار العالم، لحسن حظهم أنها لم تكن قد هزلت، وإلا لما عدموا من يهاجمهم مثلما هوجم تشومسكي لتضامنه مع منجب من طرف زمرة، وهي زمرة ذات رائحة، لا تجيد كتابة اسمه بحروف لاتينية، فـأحرى أن تكون قرأت له، ولفرط غبائها حسبت أن الرجل يقرأ صحافتنا وأن هجومها البائس عابرٌ للقارّات ولا بد أنه أصاب الرجل في مقتل. وهل يعلمون أن اللعبي كان يكفي أن يولد في الشيلي أو تركيا لننظر إليه كما ننظر إلى نيرودا وناظم حكمت، بل إن سميح القاسم حين سئل عنه ذات حوار، اعتبره شاعرًا فلسطينيًّا، مع أن فلسطين أنجبت من أنجبت من قمم.لا يضير زرقة السماء أن تحرّك هذه الزوبعة أو تلك بعضًا من خشاش الأرض. فحتى لو أدمت البعوضة مقلة الأسد كما قال الشاعر، فإنها تظل مع ذلك بعوضة.في كتابه “الأدب والغرابة” يتحدّث عبد الفتاح كيليطو عن المستنبح، وهو عندي السلف النابح لمستنبحي كتاب “الصحافة والغرابة” الذي لا يني يتألّف كل يوم.