وصل عدد ضحايا كورونا بالولايات المتحدة (الاماتة) الى 400الف، ويتوقع ان يتجاوز نصف مليون بكثير، وهذا ما ينتج عنه، بالاضافة الى مئات الالاف من الوفيات الناتجة عن اسباب اخرى في السنتين الماضية والحالية و الاجراءات المتعلقة بالحد من الهجرة وتراجع معدل الخصوبة، الى تراجع نمو ساكنة هذا البلد الشاسع. وهذا ما يمثل اشكالا حقيقيا كان له حضور في خطاب الرئيس بايدن بعد اداء القسم اكثر من الاعتبارات السياسية والايديولوجية والانسانية، الحاضرة بدورها بكل تاكيد، وكان وراء قراراته الاولى المنصبة على موضوع الهجرة والمهاجرين وسفر المواطنين المنحدرين من بلدان ذات اغلبية مسلمة الى الولايات المتحدة.
ذلك ان المسالة السكانية، التي يتم اهمالها هنا في التحاليل هنا كما يتم اهمال كوننا جزء من العالم ولسنا جزيرة وقواق معزولة، تكتسي اهمية كبيرة، بله استراتيجية، بالنسبة للولايات المتحدة و بلدان الغرب عموما التي تراهن على الهجرة لمواجهة المشاكل العويصة التي تترتب على الشيخوخة و النمو السكاني السالب، على عكس ما تظهره وتدعيه في خطابات يحركها جميعها الخوف من توازنات سكانية مستقبلية مهددة لسيطرة العرق الابيض التي تكرست عبر قرون من الزمن بفضل السبق التاريخي الى التقدم والامبريالية والاستعمار و الهجرات الاوروبية الكثيفة لتصريف الفائض السكاني في مرحلة سابقة.
ان ماميز الولايات المتحدة، كبلد هجرة، على امتداد العقود السابقة هو انها استقطبت عددا كبيرا من المهاجرين من مختلف انحاء العالم وضمنت نموا موجبا لساكنتها و لليد العاملة و للكفاءات التي تساهم في نمو اقتصادها وانتاج مزيد من الثروات، هذا بينما اتجهت بلدان اوروبا الغربية واليابان الى تشديد القيود على الهجرة بطريقة ينقصها الذكاء مما ادى الى نمو سكاني سالب في الكثير منها، وعلى راسها اليابان والمانيا، لم تساهم الهجرة السرية و موجات اللجوء بعد ازمات انفجرت في مناطق مختلفة في الحد منه. وقد كان قرار ميركل بتسوية وضعية اكثر من مليون مهاجر ولا جئ قرارا عقلانيا اكثر منه قرارا انسانيا، وهو غير قابل للتجدد في اوروبا عموما.
واستحضار المسالة السكانية في السياق الامريكي اليوم يبغي التاكيد على ان من خلفوا ترامب واعين جيدا انه بعد كورونا سيكون مطلوبا تدارك النمو الاقتصادي السالب الذي كانت سببا فيه والانتقال الى نمو موجب، وهذا مالن يتاتى بتراجع عدد السكان وشيخوخة زاحفة، اذ ان نتيجتهما الحتمية ستكون انخفاضا لاستهلاك الاسر وتقلصا للسوق الداخلية في وقت تبقى فيه امكانيات توسيع الاسواق الخارجية محدودة نظرا للمنافسة ،الاسيوية والاوروبية على الخصوص، ونظرا ايضا لحالة الطاقة الشرائية في مختلف بلدان العالم نتيجة الاختيارات النيوليبرالية، والمتوقع تدهورها اكثر بتاثير كورونا، وذلك فضلا عن متغيرات اخرى ناشئة او قادمة.
ان الدول الغربية تتوجس اليوم، واكثر من اي وقت مضى، من توسع ظاهرة “اليبننة” La japonisation التي بدات فعلا في اوروبا، حيث يستعصي الدفع بالنمو واخراجه من منطقة الصفر حتى بعد التخلي عن دوغمائية استهداف التضخم في ميدان السياسة النقدية و تجاوز سقف اتفاق التثبيت Pacte de stabilité الذي كان يحد من القدرة على استعمال العجز الميزاني والدين لتمويل النمو، اذ ان التجربة اليابانية التي اتجهت مند تسعينات القرن الماضي الى التخلي عن دوغمائية النقدويين لم تفلح في تجاوز النمو السالب او الضعيف، بينما يعرف الجميع انها كانت بطلة النمو والتصدير بعد الحرب العالمية الثانية وحققت معدلات لم تبلغها حتى الصين اليوم، ولم يترتب على تغييرها للسياسات النقدية والميزانية تضخم، والحال ان التضخم في مستوى معين مطلوب لتحفيز الاستثمار و لاحداث مناصب الشغل و توزيع المداخيل. ولتوجس الدول الغربية مايبرره، اذ انها، وخصوصا اوروبا، دخلت دورة نمو ضعيف جدا وو ضعية لا تضخمية طويلة الامد، لم تغيرها هي ايضا السياسات النقدية التيسيرية ثم التوسعية التي نهجها البنك المركزي الاوروبي بعد ازمة 2008 سيرا على النهج الذي اتبعه الاحتياطي الفيدرالي الامريكي.
ان القرارات المتخدة من طرف الرئيس بايدن ليست فقط رفضا لمنطق سابقه، الذي كان يعمل على الاستفادة من الجمهور المتبني للفكرة الانعزالية وتفوق الرجل الابيض، بل تتتضمن حسابات لمصالح الولايات المتحدة على المدى البعيد في عالم متحول تكنولوجيا واقتصاديا و استراتيجيا وايضا سكانيا. وهي قرارات تنطوي على ميل متعارض مع المالتوسية التي ربطت فيما مضى بين تقلص سكان انجلترا، نتيجة اوبئة وقتئذ، وبين الثورة الصناعية وتحسن مستوى معيشة السكان، لكن هذا الميل يخص امريكا و لايسري على العالم الذي يقترب عدد ساكنته من 8 مليار نسمة، مع تسجيل نمو سكاني مرتفع في افريقيا على الخصوص جعل العيون تتجه اليها كسوق مستقبلية.
( يتبع )
محمد نجيب كومينة