طقس مراكش الأسطوري بين عبقرية المكان وغدر الزمان: هل صار طقس مراكش الجميل مجرد حكاية أخرى من نوستالجيا الماضي؟
ـ المرابطون اختاروا موقع المدينة بعناية على سفوح الجبال؛
ـ تواجد المساحات والأحزمة الخضراء من جنانات وعراصي وحدائق داخل المدينة وفي محيطها القريب، بالإضافة إلى وفرة المياه من خطارات وسقايات وغيرها من مصادر المياه، لطالما ساهم في تلطيف وتعديل مناخ المدينة الحمراء؛
ـ عرفت مراكش تاريخيا بلقب مدينة النخيل نظرا لانتشار الآلاف من أشجار النخيل على جنباتها طولا وعرضا…
ـ طريقة التوسع الأفقي في البناء على حساب الانتشار العمودي، وأسلوب بناء حومات ودروب ومنازل المدينة القديمة ينم عن عبقرية معمارية فذة من لدن الآباء المؤسسين؛
ـ مدينة مراكش لطالما كانت قبلة لمرضى الربو والحساسية من كافة أنحاد المملكة.
———————————————————–
انتقى المرابطون موضع بناء مراكش عند سفوح جبال درن (الاسم القديم لسلسلة جبال الأطلس الكبير) الشاهقة وذلك بعد أن خرجوا من دار ملكهم الأولى اغمات، فأخذت المدينة من الجبل السامق عزته وصموده، ولكن أيضا حسن تموقعها إلى جواره بما يضمن مساهمته في تلطيف مناخها وتعديله شتاء وصيفا بفعل الثلوج التي تكسو قمته وبفعل احتوائه لحركة الرياح الموسمية القوية…
فسيفساء النسيج المعماري داخل المدينة لا تقل عبقرية عن موقعها المتميز؛ إذ أن المرابطين والموحدين من خلفهم اعتمدوا نمط بناء بسيط وفعال في نفس الوقت يقوم على الانتشار الأفقي في البيوت والمنازل بدل التطاول في البنيان، مع تدعيم البناء بخصائص معمارية فذة تتجلى داخل المنزل وخارجه؛ ففي الداخل حيطان عميقة السمك وسقف عالية وقباب متقابلة ومدخل “أعڭمي” يمهد الدخول للبيت ويمتص حرارة الجو، وخارج البيت دروب متعرجة المسالك تارة ومستوية تارة أخرى، تتخللها “رجيلات” وصابات تجمع بين حسنات الحس الجمالي والهدوء النفسي والوداعة البيئية والإيكولوجية…
ومن العوامل التي ساهمت تاريخيا في تلطيف مناخ مراكش وتعديل جوها، تواجد مساحات وأحزمة خضراء شاسعة من جنانات وعراصي، وذلك سواء في المحيط القريب جدا لأحياء مراكش مثل جنان سيدي بلعباس المقابل لحومة الزاوية (قبل تأسيس حومة قبور الشو)، أو جنان با القاضي المقابل لباب أيلان، أو المساحات الواسعة من جنانات تافراطا وبلحداد المقابلة لباب الخميس والتي تبدأ مجاليا من ذات الموضع الذي يحتله حيّ عين إيطي اليوم، أو حتى تواجد هذه الجنانات والعراصي بين أحياء المدينة نفسها؛ تماما كما هو الحال لعرصة الحامض القابعة على تخوم باب دكالة أو العراصي التي تحولت في عصرنا الحالي إلى أحياء سكنية (عرصة الغزايل، عرصة الحوتة، عرصة إيهيري، عرصة الملاك، عرصة البردعي، عرصة بانّي وقس على ذلك من أمثلة)، هذا دون أن ننسى آلاف أشجار النخيل المنتشرة على طول المدينة وعرضها لدرجة أن النخلة باتت رمزا لمراكش بل ولقبا تحمله المدينة…
وفرة الماء ـ عصب الحياة ـ ستساهم بدورها في منح مدينة الألف سنة ذلك الطقس الجميل الذي لطالما اشتهرت به في أغلب فصول العام، وهو ما تجلى في تواجد الخطارات والسقايات بكثرة، بالإضافة إلى المعيدات (تصغير المعدة وهو نظام ميكانيكي شبه آلي يروم استجلاب – ثم توزيع – المياه السطحية والجوفية من أعماق الأرض إلى البيت)، وفي العصور المتأخرة البومبات وهو نظام أكثر تعقيدا من سابقه لكنه يتوافق معه في ذات الهدف، بل إن تأثير المياه في المدينة الحمراء ذهب أبعد من البعد المعيشي أو حتى البيئي ليترسخ في الوجدان الجمعي للأمة من خلال مجموعة من الدروب حمل بعضها اسم الخطارة (الزاوية العباسية قاع المشرع)، فيما أطلق اسم المعدة على بعض الدروب مثل درب المعدة في حومتيّ أزبزط وبوسكري، ودرب البومبة في باب دكالة طوالة الڭزا، أما عدد الدروب التي تحمل اسم السقاية، فهي عديدة نسرد منها تلك المتواجدة في حومتيّ اسبتيين وسيدي أيوب على سبيل المثال لا الحصر…
إذن فمن نافل القول إعادة التأكيد على أن مناخ مراكش الجاف المعتدل شبه الخالي من الرطوبة جعلها ـ تاريخيا ـ قبلة للعديد من المواطنين المغاربة المصابين بأمراض الربو والحساسية، والذين يفضلون الاستقرار بمدينة مراكش بناء على نصائح الأطباء، لكن في السنوات الأخيرة لاحظنا انعكاسا للأدوار أدى إلى إصابة العديد من سكان الحمراء أنفسهم بمثل هذه الأمراض التنفسية وغيرها وذلك بنسب باتت مقلقة إلى حد بعيد، ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أن العوامل المتقدم ذكرها في فقرات النص أعلاه بدأت تنهار واحدة بعد الأخرى؛ فالتلوث عاث فسادا في المدينة بفعل كثرة السيارات والدراجات النارية مع ما تفرزه من أدخنة وغازات يتقدمها ويحل في طليعتها غاز ثاني أوكسيد الكربون السام، ثم إن الإسمنت المسلح قد أتى على الأخضر واليابس ليجهز على المساحات الخضراء (توجد حدائق بالمدينة لكن أعدادها في المجمل تبقى بعيدة كل البعد عن تلبية المطلوب وسد الحاجيات)، والبناء امتد عموديا ليحد من حركة الرياح الطبيعية داخل المدينة، أما السقايات فقليل منها فقط من استطاع الصمود بينما أغلبها الأعم اندثر وفني، فيما حكايا الخطارات صارت تروى على سبيل التأريخ الفلكلوري لأساطير الزمن الغابر…
ختاما لا يسعنا القول إلا إن مناخ مراكش المعتدل الرقيق يمشي بخطوات واثقة نحو مصيره المحتوم تماما كما هو الحال مع العديد من الأشياء الجميلة في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي لطالما مثّل عاملا جوهريا مهما في تشكيل الوجدان الجمعي والثقافي للمدينة/عاصمة دولة المغرب الأقصى في أزهى فتراتها وأبهى حقبها، اللهم إن تداركنا الله تعالى برحمة منه، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا.
مراد نصيري