آخر الأخبار

عبد اللطيف بنعدي نموذج يحتدى

عرفت مدينة مراكش يوم الاثنين 8 ابريل 2019 حدثا مشهودا، انه حدث الشروع في هدم منزلين متجاورين في قلب المدينة القديمة بنيا بالاسمنت والخرسانة،وسيتم مكانهما تشييد بناء يعتمد المواد الاصلية التي بنيت بها المدينة منذ تأسيسها. صاحب هذه الفكرة الرائدة والاستثنائية هو الخبير في شؤون تراث المدينة العتيقة العمراني، السيد عبد اللطيف ايت بنعبدالله ،هذا الرجل اوقف حياته على التنقيب والبحث المستمر في دور المدينة القديمة ورياضاتها، فقد عمل منذ اواسط الثمانينيات على ارتياد المنازل العتيقة ،قبل ان ينتبه الناس لكنوز المدينة العمراني،فقد زار مئات المنازل والرياضات ووضع لها تصميمات واخذ لها صورا عديدة حتى تكون لديه ارشيف حقيقي لما كانت عليه هذه التحف المعمارية في مراكش ،وكأنه كان يحدس ان امور المدينة ستتدهور وتتغير مع مرور الوقت ،بحيث ضاعت معالم كثيرة لمنازل كان قد زارها ولم يبق لها من اثر سوى في ارشيفه الغني ،من جراء تهافت المسببين الذين كانوا يشترون المنازل العتيقة باثمنة بخسة ويعمدون الى ازالة كل المواد الاصلية ذات القيمة التاريخية ليبيعوها بالتقسيط مثل الاسقف الخشبية والابواب والسراجم محولين هذه المنازل الجميلة الى دور قبيحة بلا مذاق ولاروح.
هذه الخبرة المتراكمة عند السيد عبد اللطيف ،وهذا الشغف العارم بروائح المواد الاصلية جعلته يتفرد في مراكش بهذه الروح الاصيلة التي تسعى الى البرهنة على ان المدينة العتيقة تجافي كل مواد البناء الجديدة التي لا تتلاءم وروح المدينة كما اختطت منذ فجر تأسيسها. فهو يصر اصرارا على إعادة بناء وترميم المنازل القديمة بالمواد التي بنيت بها أصلا،وهذا الامر منطقي جدا لان اسم المدينة لايمكن إطلاقه الا اذا روعي في بنائها وإصلاحها وترميمها المعايير المعمول بها في العالم كله بخصوص المدن الاثرية والعتيقة. هذه الروح تمثلها وتشربها عبد اللطيف ايت بنعبدالله في كل المنازل والدور التي اعد إحياء رسومها التي كادت ان تذهب ادراج الرياح وجشع المسببين الذين تسببوا في تخريب سنوات من تاريخ المدينة العريق.
بالفعل، فقد انجز تحفا معمارية تضاهي ماكانت عليه في السابق ،من دون ان يخدش في اجساد هذه المنازل ،فظلت مظاهر القدامة المعمارية سارية في كل الدور التي انتشل من الخراب والدمار والاهمال والبشاعة، لقد امتد هذا الشغف حتى لامس الزمن القديم ، واسفر عن انقاذ دار من الزمن السعدي أطلق عليها أسم دار الشريفة والتي حولها لتحفة معمارية والى محفل ادبي ،فأصبحت منذ ثمانية عشر سنت خلت كعبة للمثقفين والأدباء والكتاب والفنانين والتشكيليين . وأعاد ايضا ترميم دار بديعة الصنع بحي أحد رجال مراكش السبعة وهو حي سيدي بن سليمان الجزولي تسمى دار الزليج وهي دار قديمة ورد ذكرها في رحلة محمد المكي “الرياحين الوردية في الرحلة المراكشية”،واعتقد انه لو بقيت دور من زمن المرابطين والموحدين لكان سباقا لحمايتها وتجيديد رسومها.
إن المنزلين اللذين شهد جمهور المثقفين والكتاب والمؤرخين والصحافيين بدء هدمهما يوم الاثنين 8 ابريل 2019 فيقعان بدرب تودغة المسامت لدار الباشا في الطريق الى رياض لعروس ويحده من الخلف حومة باب دكالة هما في الاصل كانا منزل المختار العادل الذي غيرت ملامحه وقسم وبني بناء اسمنتيا لا يستقيم. وهدم هذه المنازل القبيحة المنظر من اجل محو اثارهما وتعويضهما بدار مشيدة بمواد البناء الاصلية وتصميم جمالي بمعايير البيوت المعتقة ،يعني اشياء كثيرة ويبعث برسائل مهمة : اولا، إمكانية استعادة المدينة لمنازلها التي كادت ان تختفي الا ماندر ،ثانيا ،التدليل على ان البناء بالمواد الاصلية يصل الجميل بالنافع فلديه القدرة على تحمل عوادي الهر ، وكلما قدم ملح،ثالثا: إن التشجيع على عودة هذا النمط من البناء في المدينة القديمة ، ولم لا في الاحياء الجديدة ،كما فعل عبد اللطيف حين شيد رياضا بمواصفات الرياضات القديمة في حي جديد خارج الاسوار،سيحيي مجموعة الصنائع في طريقها الى الانقراض. ولقد أعجبتني التفاتة ذات دلالة عميقة أثناء ورش الهدم حيث قدم السيد عبد اللطيف للجمهور لمعلم الذي سيتكفل ببناء الدار بالمواصفات العتيقة ،لابد من العناية والتقدير لهؤلاء لمعلمين وتحفيزهم لنقل خبراتهم للاجيال القادمة،
درب تودغة يوجد في حومتين في حي الموقف وفي رياض العروس ،وقد تحدث الحسن الوزان في كتابه وصف افريقيا عن منطقة تودغة ووصف الواحة وصنائع اهلها فهم يمتهنون
الحراثة والدباغة. فموضوع الهدم تم في الدرب القريب من دار الباشا. اعتقد أن هذه المبادرة سيكون لها مابعدها وستشجع اهل الذوق الرفيع أن يستأنفوا البناء بالمواد الاصلية ،لأن المبادرات العملية يكون تأثيرها ابلغ من التنظير والنقد الذي لا يتجاوز الحناجر، ولا يتحول الى ممارسة عملية ،فعملية هدم بناء اسمنتي بلا روح سيحسس الساكنة والسابلة ويطرح لديهم أسئلة حقيقية حول مآل المدينة القديمة ،لأن التعليم بالمثال ابلغ من التعليم بالمقال.
إن بادرة عبد اللطيف الاستثنائية والمتفردة ليست وليدة اللحظة ،بل هي ثمرة لمسار طويل ، من تراكم الخبرات والتمهر في الاصلاح والترميم الباعث له اولا الشغف ثم الولع بتغذية الحواس كلها بجمال وروائح التراب والخشب والجير والجبص والتزيين بالزليج والفسيفساء والنقش والكتابة ،إنه الولع بالدور التي تحفظ انسانية الانسان وكرامته،وتحافظ له على سكينة ايقاعه اليومي ،لتربطه بالمطلق وبحصته من السماء وتؤمن له هدوءا واسترخاء ،وتمتعه بالجمال المسترسل ،هذه هي الروح المحركة لهذا الاشتغال الحقيقي بمعمار المدينة القديمة، فكأن هناك شعورا برد دين لهذه المدينة الخلابة الألوفة والمبهجة

د. محمد آيت لعميم / مراكش