آخر الأخبار

عمر بنجلون : الماضي/ الحاضر

جليل طليمات

في كل الثامن عشر (18) من دجنبر تحل ذكرى الاغتيال الشنيع لأحد أبرز وأخلص مناضلي ورموز الحركة التقدمية اليسارية المغربية عمر بنجلون . لقد كانت لتلك الجريمة النكراء كلفة غالية على حزبه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعلى مجموع القوى الديمقراطية والتقدمية ببلادنا . وفي هذه الذكرى الأليمة، التي تحل في سياق سياسي وطني وإقليمي ودولي دقيق ومعقد، وفي وضع انسداد للمجال السياسي، وتردي للفعل الحزبي، من الأجدر بنا استحضار واستلهام سيرته الفكرية والنضالية، النقابية والحزبية، خاصة ما كان يدعو إليه من ضرورة العمل الدؤوب على “إزالة الالتباس والغموض” و “محاربة التزييف والتضليل” في مواجهة السلوكات الإنحرافية والانتهازية، والأفكار الرجعية الظلامية. تلك مهمة كانت ذات أولوية في مسيرته، اضطلع بها في مختلف واجهات تجربته النضالية حيث أعلى من شأن ودور الفكر، النظرية، الوعي، العقل في الممارسة السياسية والتنظيمية، فالثقافة عنده “ليست محايدة” ما يفرض على المناضل السياسي مواجهة ما سماه “ثقافة الاستغلال الطبقي”، التي تمجد الماضي وتزيف الحقائق، وذلك بالتسلح بما يسميه ” النظرة التاريخية الجدلية” للواقع، والتشبع بالفكر الاشتراكي، فالاشتراكية في منظور الشهيد عمر هي السلاح الفكري لمواجهة مختلف أشكال “الزيف الإيديولوجي”، وليست كما ظل يوضح ذلك، فكرا دوغمائيا منغلقا، إنها، كما يشرحها عمر، منافية لأية دوغمائية لأن روحها هي “الجدلية التاريخية”، حسب تعبيره، إنها ” اشتراكية علمية”. وقد ظل الشهيد وفيا لهذا التوصيف للاشتراكية في كل كتاباته ومحاضراته التي كان يواجه فيها ما كان يسميه ب ” إيديولوجيا الأصالة” التي يعتبرها خداعا وتضليلا للجماهير من طرف أبواق “الزيف الإيديولوجي”. فما أشد حاجتنا إلى استلهام ذلك في زمن النيوليبيرالية المتوحشة، و”لبرلة ” معظم النخب السياسية والثقافية، وأحزاب انتسبت للاشتراكية عقودا طويلة.
ربط الشهيد عمر ربطا جدليا بين النظرية والممارسة، بين الثقافة والسياسة، بين الإيديولوجيا والتنظيم وذلك لمواجهة الفكر الظلامي من جهة، والتصدي لمختلف النزعات والسلوكات المضرة بالدور الطليعي للطبقة العاملة في النضال التقدمي من جهة أخرى، فقد ارتبط الشهيد عمر منذ سن مبكرة بالطبقة العاملة ارتباطا عضويا، وناضل باستماتة وصبر ضد البيروقراطية النقابية التي نهجت سياسة “خبزية” بغاية عزل النضال العمالي عن نضال الحركة التقدمية المغربية. وسيظل جهد الشهيد، العملي والتنظيمي من أجل إصلاح الحقل النقابي بما يحقق ريادية وطليعية الطبقة العاملة في التغيير ملمحا بارزا في سيرته النضالية،وودرسا حيا إلى اليوم، لا بد من الاسترشاد به في أي إصلاح حقيقي لأعطاب وانحرافات الحقل النقابي القائم.
وعلى مستوى الالتزام الحزبي كقيادي اتحادي، كان عمر ذو حساسية للعفوية والتجريبية في الممارسة السياسية، كما عكست ذلك “المذكرة التنظيمية” الاتحادية التي صاغها الشهيد بهدف تقوية الجسور بين الحزب وبين المجتمع، خاصة الطبقة العاملة والشباب، وجعل التنظيم الحزبي فعلا ” أداة توسط بين النظرية والممارسة”. ولا شك في أن ما تعيشه أحزاب وتنظيمات اليسار عموما من اختلالات وأزمات داخلية، ومن انفصال عن المجتمع، ليطرح عليها بإلحاح تحيين هذه المذكرة في أي مجهود سعى لتجديد ثقافتها التنظيمية: توجهات وهياكل ومساطر .. ففي نصها وروحها ما يفيد في تحقيق ذلك إذا صدقت النيات والإرادات ..

2
ولأن هذه الذكرى تحل اليوم وسط موجة عاتية من ” الالتباس والتزييف والتضليل” بخصوص العلاقة بين النضال الوطني من أجل الوحدة والديمقراطية والعدالة الإجتماعية، وبين نضال بقية الشعوب العربية من أجل نفس الأهداف، وفي مقدمتها نضال الشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني المحتل، فإن الاسترشاد بمنظور عمر للعلاقة بين الوطني والقومي يمسي ذا أهمية خاصة في هذه الذكرى:
فقد كان لعمر دور تأسيسي لجدلية الوطني والقومي، وذلك من خلال كتاباته ومحاضراته وإشرافه على إصدار جريدة ” فلسطين”. وأستحضر هنا محاضرة له حول القضية الفلسطينية في موضوع “القضية الفلسطينية والمثقف المغربي”، نظمها القطاع الطلابي سنة 1972، حيث كانت الساحة الفلسطينية آنذاك وحركة التحرر العربي تعيش على وقع مخلفات مذابح أيلول الأسود، وتعاني من “تضخم إيديولوجي”، فقد رسم عمر فيها ( المحاضرة كما في مقالاته في جريدة فلسطين) بالوضوح الذي يزيل أي التباس، طريق استمرار كفاح الشعب الفلسطيني ومجموع القوى المناضلة في الساحة العربية قائلا : ” إن الموقف بالنسبة للقضية الفلسطينية ( فكريا وعمليا) لا ينفصل عن الموقف بالنسبة لقضايا التحرير والكفاح ضد الوجود الإمبريالي وعملائه بصفة عامة وذلك ابتداء من مشكلة تحرير المغرب نفسه” ( عن مجلة أقلام عدد ماي 1972 ).. هكذا ارتفع عمر بالقضية لتصبح قضية أمة، حيث لا حرية، ولا تحرير لفلسطين بدون كسر قيود التبعية على صعيد كل قطر عربي. كم هو ثمين هذا الدرس العُمَري في هذه اللحظة بالذات التي تهرول فيها دول عربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتُسخر فيها “نخب” أقلامها لتبريره و” الزغردة” له في مشهد تزييف وتضليل لم يشهده الحقل السياسي من قبل في علاقته بالقضية الفلسطينية. فما أحوجنا، مرة أخرى لمبدئية عمر وشجاعته السياسية في مواجهة ما يجري في العلن وفي الخفاء من أشكال ومبادرات للتطبيع مع الكيان الصهيوني والتصدي لأبواق التطبيع ذات الخلفيات العرقية والشوفينية .. التي تختزل القضية الفلسطينية في كونها مجرد ” قضية إنسانية”، أي لا هوية عربية ولا إسلامية لها!، ويحدد الشهيد عمر في نفس المحاضرة، دور الشعب المغربي وقواه السياسية اتجاه القضية الفلسطينية بقوله ” لا يمكن أن نتجاهل واجب المساهمة من طرف شعبنا، المساهمة الملموسة والعملية، (..) يجب أن نعتبر أن مشكل التأثير على الأنظمة القائمة مطروح لا على الثورة الفلسطينية وإنما على الشعوب المعنية، وبالتالي على المثقفين القادرين على محاربة التضليل والتبريرات المصطنعة، وتجنيد الطاقات الشعبية لنصرة القضية الفلسطينية ضد الحاكمين إن اقتضى الحال ” . إنها صرخة الأمس .. نفتقدها اليوم في مشهد حزبي بلا روح ..
وفي غمرة التعبئة الوطنية الشعبية من أجل درء خطر الانفصال في الصحراء المغربية من طرف المستعمر الإسباني، وضد كل نزعة عدمية وطنية، أو قومية يسراوية، كان عمر أحد أبرز القادة الحزبيين ممن رفعوا عاليا الموقف الوطني الديمقراطي التقدمي في المسألة الوطنية، وبراديكالية أكثر.
لقد فقدت الحركة الاتحادية، وكل قوى الصف الوطني الديمقراطي التقدمي في عمر بنجلون القائد السياسي الذي جمع في وحدة جدلية بين النضالين الوطني والقومي التحرري، كما فقدت باغتياله الجبان منارة للعمل السياسي والحزبي المؤسس على الوضوح في الرؤية، والجرأة في اتخاذ المواقف والقرارات المطابقة لمتطلبات الواقع الموضوعي مهما تطلب ذلك من ثمن وتضحيات .. سلام على رو ح عمر المثقف المناضل والقائد السياسي الشهم، عمر الوطني العروبي الفلسطيني التقدمي الذي أوقف حياته من أجل الوحدة والديمقراطية والاشتراكية .. إنه الماضي الحاضر فينا دوما ..