جليل طليمات
في يومها العالمي: عناصر للتفكير في وضعية تدريس الفلسفة
ككل ثالث خميس من شهر نونبر, يحتفي العالم باليوم العالمي للفلسفة الذي أقرته منظمة اليونسكو منذ سنة 2002 بهدف تعزيز مكانة الفلسفة في الثقافة الإنسانية , وفي المنظومة التربوية والتعليمية, وإثارة النقاش الفكري حول القضايا الكبرى لعصرنا, و حول رهانات الفكر الفلسفي في ترسيخ قيم العقل والحرية والعيش المشترك في إطار من التسامح والاحترام للاختلاف بين الأفراد والشعوب والثقافات والعقائد.
ابتهل هذه المناسبة للتوقف عند وضعية تدريس الفلسفة في المغرب وذلك بإعادة طرح بعض القضايا القديمة / الجديدة, التي تسائل كل مشتغل في الحقل الفلسفي والتربوي, وتفرض نفسها للفحص والتعميق في ضوء ما راكمه تدريس الفلسفة من أسئلة خاصة, ماضيا وحاضرا. فإلى أي حد حقق درس الفلسفة الأهداف المعرفية والتربوية والقيمية المتوخاة منه ؟ وما حصيلة الإصلاحات التي عرفها درس الفلسفة في الثانوي ,منذ ما عرف ب”عشرية الإصلاح” مطلع هذه الألفية؟ ما سبل تعميق تلك الإصلاحات أي ” إصلاح الإصلاح” بما يعزز مكانة الفلسفة في المدرسة والجامعة ,وفي الحقل الثقافي العام. ؟ إنها أسئلة عامة, تنطوي على أسئلة فرعية وجزئية تتعلق بتفاصيل وضعية تدريس الفلسفة ,وباختلالاتها المختلفة , المؤسسية والتربوية والمعرفية التي تتطلب تدخلا فاعلا من طرف الأطر التربوية التخصصية في السلك الثانوي (أساتذة ومفتشي مادة الفلسفة) وجمعيتهم المهنية (الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة) , ومن طرف أساتذة الفلسفة بالتعليم العالي كذلك , بما يؤسس لرؤية إصلاحية جديدة لدرس الفلسفة و للشروط المؤسسية التي يمارس وينجز فيها .
قبل تناول تلك الأسئلة العامة, التي لا أزعم امتلاك جواب مكتمل حولها , لابد من تسجيل خلاصتين رئيسيتين من مسار تدريس الفلسفة , وما طرأ على وضعيتها ضمن المنظومة التعليمية من متغيرات , هما :
* إن تدريس الفلسفة في المغرب ظل وثيق الارتباط بالتحولات السياسية, وبالصراع الفكري والإيديولوجي بين نخب المجتمع, بين قوى التقليد والمحافظة, وقوى التغيير والتحديث الثقافي. ومازالت ذاكرة مدرسي الفلسفة, والذاكرة الثقافية المغربية عموما تختزن وتستحضر أسوأ القرارات الرسمية الخانقة والمصادرة “للحق في الفلسفة”, والمعارضة لها بالفكر الإسلامي !!, ما أضر بهما معا, حيث أنتجت ثنائية مزيفة تولدت عنها نزعات فكرية وعقائدية منغلقة ومتطرفة في مناهضتها للفكر الفلسفي, ولقيمه الإنسانية والكونية.
مع سيرورة الإصلاح التي عرفتها المنظومة التربوية منذ إقرار الميثاق الوطني للتربية والتكوين تم رفع الكثير من التضييقات على تدريس الفلسفة وذلك تساوقا مع إستراتيجية الدمقرطة , وتناغما مع إرادة سياسية ومجتمعية عامة اقتضت من بين ما ا اقتضته رفع التضييقات على الفكر الحر والنقدي والعقلاني في مواجهة النزعات النكوصية الظلامية و التكفيرية التي ترعرعت ونمت وتغولت في عهد مصادرة ” الحق في الفلسفة” وتشديد الخناق على تدريسها ومدرسيها.
* إنه من باب الموضوعية تسجيل إيجابية المستجدات التي طرأت على وضعية تدريس الفلسفة في إطار عملية الأجرأة للميثاق الوطني للتربية والتكوين . ودون عرض تفصيلي لهذه المستجدات, أقتصر على ذكر أهمها, متمثلا في:
_تعميم تدريس الفلسفة في مختلف في مختلف شعب التعليم الثانوي والتأهيلي والتعليم التقني بكل شعبه .
_ فتح شعبة الفلسفة في الجامعات الجديدة بعد أن ظلت سجينة جامعتي الرباط وفاس.
_ إصلاح درس الفلسفة منهاجا وبرامج واختيارات بيداغوجية ( التدريس بالكفايات , والمجزوءات , واعتماد برنامج مفاهيم , وتحرير الكتاب المدرسي , كباقي كتب المواد الأخرى من أحادية التأليف المجهول الهوية..)
_ تحرير مادة الفلسفة من ثنائية فلسفة / فكر إسلامي , بدمج هذا الأخير ضمن “مقرر الفلسفة ” ,باعتباره (الفكر الإسلامي) جزء لا يتجزأ من التراث الفلسفي الإنساني.
بناء على هتين الخلاصتين , ينتصب أمامنا سؤال جوهري , آن أوان التعاطي معه بجرأة نقدية : هل أغنت هذه التحولات درس الفلسفة , وساهمت في ترسيخه المعرفي والقيمي ؟ أم أنها حولته إلى مختبر لتكوين كفايات ومهارات تؤهل للحصول على نقطة جيدة في الامتحانات , بدل تعلم التفكير الذاتي , أي التفلسف ؟
إن مشروعية هذا السؤال تنبثق من ما أصاب درس الفلسفة في الثانوي من تضخم بيداغوجي على حساب الجانب التكويني فيه , ما يدعو إلى التساؤل : لماذا هيمنت النزعة البيداغوجية ” التقنوية” على بناء درس الفلسفة ؟ ألا تشكل هذه النزعة , كما تساءل ذات ندوة المفكر الراحل , فقيد الدرس الفلسفي الكبير محمد سبيلا “انبعاثا جديدا , في ثوب ” حديث” للنزعات المناهضة للفلسفة بإدعاء أن العلم التقني هو مالك الحقيقة وصانع التقدم والتنمية”؟
لعل ما يعضد هذه التساؤلات القلقة, هو ما أثاره, ويثيره درس الفلسفة كما يمارس راهنا في فصول التعليم الثانوي التأهيلي من أسئلة لم تتقادم , بل ازدادت إلحاحية , وأثبتت سنوات التدريس بالمقررات الحالية وجاهتها المعرفية والتكوينية والتربوية , منها :
* سؤال مكانة تاريخ الفلسفة في المقررات والكتب المدرسية الجاري العمل بها منذ سنة 2004 , ذلك ان التصور الذي تحكم في وضعها قام بشكل واعي أو غير واعي , وربما باسم القطيعة مع ماضي ” الدرس الفلسفي الإيديولوجي ” لحقبة ما قبل هذا الإصلاح , بتغييب شبه مطلق لعلاقة المفاهيم المقررة بأرضيتها التاريخية ما حول درس الفلسفة إلى مجرد عرض لأطروحات مختلفة للفلاسفة حول مفهوم معين , على التلميذ (ة) استيعاب الإختلاف بينها داخل النص , ما يجعل فهمه لذلك الإختلاف مبتورا وعسير الاستيعاب, أو مجرد اختلاف ” ذهني” بين الفلاسفة .
ليس دافع هذه الملاحظة , كما قد يتبادر ذلك للبعض ” الحنين ” للدرس الإيديولوجي” المفرط في استعراض التاريخ على حساب المعرفة ومنطق الفلسفة, , وإنما الغاية منها هي إغناء درس الفلسفة , وضخ الحياة فيه من طريق خلق توازن بين تعليم الأفكار والأطروحات الفلسفية وبين وتأطيرها ضمن سيرورة التاريخ الذي تبلورت ونضجت داخل معطياته الواقعية . إن المقاربة المفاهيمية المعتمدة لا تتناقض مع إحالة المفاهيم المدرسة على تدرجها في التاريخ , فهي نشأت واتخذت معاني متعددة ومختلفة في معتركه , لا داخل النصوص وحدها, فالنص الفلسفي بمفاهيمه وآلياته المنطقية يظل دائما في حاجة إلى نافذة على التاريخ تلقي الضوء على ماوراء تجريديته من علاقة بالواقع . ويبقى المدرس (ة) في نهاية المطاف هو العنصر الحاسم في تحديد حدود حضور التاريخ في تأطير مفاهيم وأطروحات المقرر الفلسفية .
* ومن الأسئلة التي يفرضها العمل بالمقررات والاختيارات البيداغوجية الحالية سؤال العلاقة بين الفلسفي والبيداغوجي , وتنبع أهمية هذا السؤال من استشراء نزعة “بيداغوجوية ” اختزلت درس الفلسفة في تلقين مهارات جاهزة ,وتقنيات في الكتابة الإنشائية تصادر على ” ذاتية التلاميذ ” في الكتابة الحرة والتلقائية, وسجنته في خانات شروحات تبسيطية تسطيحية للأطروحات الفلسفية حول المفاهيم المقررة ,أصبحت لدى البعض تجارة على غرار ” كيف تتعلم الفرنسية في خمسة أيام” !
إن درس الفلسفة , كما يمارس في معظم الفصول الدراسية ,يطرح بحدة مسألة الوضعيات التعليمية الكفيلة بجعل التلاميذ يتواصلون ويتفاعلون مع حصص الفلسفة في مناخ من التفلسف, يحقق للدرس الفلسفي التناغم والتكامل والوحدة بين الفلسفي والبيداغوجي اعتمادا على مقوماته, ويحد أو يخفف, بالتالي من هيمنة تلك النزعة البيداغوجوية والتقنوية المضرة بالأهداف المعرفية والتكوينية والقيمية للدرس الفلسفي .
* أبادر هنا بطرح سؤال مسكوت عنه طيلة هذه السنوات من العمل بالمقررات الدراسية الحالية : ألم ينتج , عمليا,عن دمج الفكر الاسلامي في مقرر الفلسفة تهميشا إلى حد الإقصاء ,في الممارسة الفصلية له ؟ ألم يكرس تضمين الكتب المدرسية لمادة الفلسفة نصوصا لمفكري وفلاسفة الإسلام لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ! “الارتباط الماهوي” للفلسفة بالغرب في وعي التلاميذ ؟ وبماذا نفسر خلو الأطروحات الفلسفية التي يستند إليها التلاميذ في كتاباتهم الإنشائية من أية أطروحة فلسفية لمفكر أو فيلسوف ينتمي للحقل الثقافي والحضاري الإسلامي ؟ ألم يكن ,إذن ذلك ” التجاوز لثنائية فلسفة /فكر إسلامي على حساب هذا الأخير؟ هذا في الوقت الذي من المفروض أن يشكل درس الفكر الإسلامي مكونا معرفيا وهوياتيا في ثقافة التلميذ ( ة) , فهل يجوز, تكوينيا وتربويا مثلا أن يتعرف المتمدرسون على مفهوم الحرية في الفلسفة الغربية مع اسبينوزا وسارتر وميرلوبونتي وإمانويل مونييه ..الخ , ولا يتعرفون عليه في تصور مفكري وفلاسفة الحضارة الإسلامية سواء مع الجبرية أو القدرية أو مع العقلانية المعتزلية وغيرها , وقس على ذلك بقية المفاهيم المقررة . إن هناك ضرورة معرفية وتربوية لمعالجة هذا الاختلال وذلك بإعادة النظر في محتوى وشكل ذلك ” الدمج” في المراجعة المطلوبة بإلحاح للبرامج والمقررات والكتب المدرسية لمادة الفلسفة. إن هذه المسألة تقتضي نقاشا أوسع وأعمق, لذا أكتفي هنا بإخراجها من دائرة النسيان أو التناسي والتجاهل.
* ومن الأسئلة التي يمكن اعتبارها مفتاح الجواب عن سابقاتها , سؤال التكوين الأساسي , والتكوين المستمر لمدرسي الفلسفة , فالدرس الفلسفي بالمواصفات والرهانات المطلوبة , ولو في حدها الأدنى , مرتبط ورهين بالفعل التكويني والتربوي للمدرسن ( ات) , وبمستوى تكوينهم المعرفي والبيداغوجي . فلا يجوز أبدا تغيير أو تعديل البرامج والمقررات الدراسية دون أن تسبقها وتواكبها دورات تكوينية حقيقية ومنتظمة للفاعلين في حقل التدريس والتأطير التربوي , وهذا ما قصرت فيه , إن لم أقل فشلت فيه الإصلاحات التربوية السابقة , ما يفسر جوانب من ضعف المردودية المعرفية والتكوينية والقيمية لدرس الفلسفة اليوم , ففي درس الفلسفة , يبقى المدرس (ة) كذات مؤسسة للدرس هو من يحدد مصير علاقة تلامذته بالفلسفة , إما شغفا أو نفورا منها , وكما قال فقيد الدرس الفلسفي أحمد السطاتي ” لا شيء يضر بالفلسفة أكثر من أستاذ الفلسفة في الثانوي والعالي ” ( من حوار له مع مجلة فلسفة , العدد 6 , 1998) .
وعليه , فإن تجديد وتعميق التكوين الأساسي للجيل الجديد من مدرسي الفلسفة , وتحيينه ليصبح في مستوى رهانات تدريس الفلسفة , مسألة لم تعد تقبل التأجيل ولا دورات تكوينية مرتجلة وسريعة .., إنها مهمة استعجالية تفرض تعبئة مختلف الطاقات والكفاءات الأكاديمية والعلمية والتربوية وفق برنامج متدرج ومدروس ومنتظم في الزمن , ومستجيب لحاجات مدرسي الفلسفة اليوم , ولتطلعهم إلى الارتقاء معرفيا وبيداغوجيا بأدائهم في فصل درس الفلسفة .
* ويبقى سؤال العلاقة بين تدريس الفلسفة في الثانوي التأهيلي وتدريسها في التعليم العالي من بين الأسئلة التي تحتاج إلى وقفة تشخيصية دقيقة لدرس الفلسفة في الجامعات , وإلى مساءلة لمضامينه وبرامجه وتخصصاته ,فهو قاعدة التكوين المرجعي لمدرسي الغد في السلك الثانوي التأهيلي . فهل تؤطر الدرس الفلسفي الجامعي رؤية فلسفية مندمجة ومتكاملة , أم أنه عبارة عن جزر من التخصصات التي لا جسور بينها ؟
أطرح هذا السؤال لأجل التأكيد على أن النهوض بوضعية تدريس الفلسفة , وبموقع الفلسفة في الحقل الثقافي عموما , يرتبط أيضا ,وأيضا ببناء منهاج واحد لدرس الفلسفة بالثانوي والعالي , يقوم على مبدأي التكامل والتدرج في التكوين للأجيال المقبلة من الطلبة , مدرسي ومدرسات الغد .
هذه بايجاز وتكثيف شديدين أسئلة أخرجها من طي النسيان والتناسي , لأنها قديمة وليست وليدة اليوم ,وكل الأمل في مدرسي ومدرسات الفلسفة والمؤطرين التربويين ( أي المفتشون والمفتشات) , والباحثين والأكاديميين في حقل الفلسفة ومختلف الحقول الأخرى أن يولوها ما تستحقه من اهتمام ومقاربات واقتراحات لإصلاح ما ينبغي إصلاحه في أية مراجعة قادمة للمناهج والبرامج الدراسية , فقضية تدريس الفلسفة ليست قضية مهنية تعني الفاعلين التربويين المباشرين , وإنما قضية مجتمعية بالدرجة الأولى , فرهانا ت التحديث الفكري والثقافي والسياسي لمجتمعنا , وترسيخ قيم العقل والحرية و المواطنة المسؤولة ..الخ ,لا يمكن أن تتحقق خارج الحضور القوي والمؤثر للفلسفة في منظومة التربية والتكوين بكل مؤسساتها ومعاهدها العليا وتخصصاتها الأدبية والعلمية والتقنية , وكذلك في حقل الثقافة والإعلام والتواصل .. وبكلمة , في المجتمع ككل .