سـعـد سـرحـان
لا “جبل قاف” في الأطلسِ،ولا حطام سفينةِ نوحٍ في الأطلسيّ ،من أقاصي اليابسة جئنا،ومن أصلابٍ شتى وصلنا إلى هنا بُعَيْد الأزل ولم نسأل بعضنا: من أين؟ متى وهلْ؟ لنا كلّ الملامح ولنا من بابل حدائق اللغة ما من لسانٍ كان قصبَ سبقٍ أو حزامَ عِفَّة وما من دمٍ قُحٍّ…فمن نحن؟
مع كلّ إحصاء يُطْرَحُ على المغاربة سؤال وجوديّ: كم نحن؟ ويمكننا، دون مناسبة تذكر، أن نطرح شقيقه: من نحن؟ ليس المغرب بلدًا طارئًا على الأرض. فقد كان هنا منذ بدء الخليقة، كما أنّه لم يكن قفرًا قبل مجيء إدريس الأوّل، فقد استوطنته شعوب وأقوام كثيرة على مرّ التاريخ. وإذا كانت فرنسا، التي لم تُخضعه للحماية سوى أربعين عامًا، لم تغادر تمامًا حتى بعد استقلاله عنها بعقود، إذ تركت بصماتها عميقة على اللغة والسلوك ونمط الحياة… فإنّ تراكم الأحقاب والأحداث هو ما يجعل بصمات الشعوب القديمة غير ظاهرة تمامًا.فهل اختفى الفينيقيّون، مثلًا، عن بكرة أبيهم ذات ليلة دون أن يتركوا أثرًا بعد أن قضوا به ما قضوا من الزمن، خصوصًا في مدنه السّاحليّة التي كانت منطلقًا لهم إلى عوالم أخرى…بعودتنا إلى كتب التاريخ سنجد أنّ العلامات الفارقة للشّعوب تفضح أحفادهم بيننا. فبين ظهرانينا أشخاص يخلعون ملابسهم وينبرون للمعركة مع أوّل حرف من سوء التّفاهم، وغالبًا ما تكون لمشاجراتهم بعض سمات الحروب. وهؤلاء، لا محالة، سليلو الوندال أو الرّومان.وهنالك أناس بارعون في التجارة وحساب الرّبح والخسارة، ومنهم من يفضلون السّواحل مسرحًا لأنشطتهم وهؤلاء، بلا شك، فينيقيّون.أما الذين لا غبار على أصلهم، فهم أحفاد بني هلال وبني سليم الذين مازالوا يحملون نفس جينات الماء والكلأ التي كانت لأجدادهم.لو نستطيع أن نصقل لهجاتنا وعاداتنا وتراثنا في الغناء والطّبخ وصناعة الملابس والحليّ… لربّما تحوّلت جميعًا إلى مرايا فصيحة تعكس وجوه أسلافنا، أسلافنا الذين من مختلف الدّماء.ولنا فقط أن نتأمل هذه القائمة من الأسماء العائلية المغربيّة لنعرف من أيّ الأصقاع وأيّ الأصلاب انحدر حاملوها: الزياني، الخطّابي، أمقران، آيت لحسن، العراقي، الشّامي، الأندلسي، الفارسي، اليمني، الإفريقي، البُخاري، الهندي، الألباني، القزويني، الشنكيطي، الغّساني، المروزي، القريشي، النّجدي، النّجاري، الحجازي، البغدادي، البصري، الغرناطي، السّمرقندي، الدّاغستاني، الرازي، الهلالي، السليمي، المكّي، المديني، التلمساني، الصقلي، النّاصري، المحمدي، الصدّيقي، العمري، العثماني، العلوي، المعاوي، السفياني، الأموي، العبّاسي، الرشيدي، الإدريسي، المالكي، الشافعي، مورينو، دانييل، لارغيت، العلج، العاجي، الذّهبي، الفضّي، الأبيض، الأكحل، الأزرق، الأحمر، الأخضر، الوردي…هذه الفسيفساء بعضٌ منّا، فمَنْ نحن؟ أما بالنّسبة إليّ، فقد ورثت حبّ الفكاهة والسّخريّة عن أخوالي، والتّطيُّر عن أمّي، وحبَّ الأشجار عن جدّي، والصّبر عن أبي، والعزلة عن نفسي، والإصرار عن الإسكندر المقدوني، والكنز الذي لا يفنى عن القناعة التي فنت، والطّنز عن خالي محمد الذي جاء به من طنزانيا، والثرثرة نثرًا والاختصار شعرًا عن الثّرثار ومحبّ الاختصار…أحتكم إلى المنطق احتكام البنَّاء إلى الفَادِن. وأرفع نصف تحيّة إلى فيثاغورس والنّصف الآخر إلى غريمه: فالإنسان، حقّا، مقياس كل شيء. فحفيد من أنا؟ إنّني أكاد أن أكون بيزنطيًّا لولا اختلافي المعروف في قضية البيضة والدّجاجة. فأنا لا أستبعد الدّيك من السؤال حتى لا يأتي الجواب عقيمًا.