إدريس الأندلسي
كثير منا يشعر بتناقض داخلي يسكنه و هو يعبر عن ضرورة التغيير الذي يجب أن تطال الدولة و المجتمع. و قلة تشعر أنها تحمل الحقيقة المطلقة و من حقها أن تسكن برجا عاجيا ينزهها عن النقد الذاتي. المشكل حقيقي و يخص بالأساس نخبا عاشت و تعيش على التناقضات و تعتبر نفسها قمة في والعلم والخبرة . تعرف كيف تسوق رداءة دورها لتحتل كل المنابر بما في ذلك تلك التي تدفع نقدا مقابل كلام مرسل. و لهذا أصبح “الخبراء” سادة الاستديو هات وكل ما يقولون معروف و عادي جدا. وجب القول أن هذه التناقضات تهم أيضا و بالأساس العلاقة بالسلطة و المال و الجنس و الدين و العلاقة مع الآخر. تتفتق العبقرية في مجال التبريرات لدى من يتمتعون بقدرة على الخطاب و التصالح الممتزج بكثير من الانتهازية مع الواقع أو بالأحرى قبول كل اكراهات هذا الواقع. و يبقى هذا السلوك بعيدا عن احداث الرجات في الوعي الجمعي للمواطنين . الصوت الحر غير مقبول و النقد الحاد و الصريح ممنوع في وسائل الإعلام.
نريد جميعا أن نغير مجتمعنا و دولتنا و نضع حدودا لكل السلوكات التي تعيق التنمية، ولكننا نسعى في نفس الوقت إلى المحافظة على أساليب التدبير القديمة و غير السليمة كلما تطلب الأمر تغيير سلوكنا. المسألة تتعلق بالفرد و بالمؤسسات في شموليتها و قطاعات تدخلها. كم كانت مفجعة تلك التسجيلات و الأفلام التي رافقت الانتخابات الأخيرة. عورات هيئات حزبية صورتها هواتف اعضاءها و منحتها للمجتمع لكي يتفرج على الرداءة. الرشوة التي كانت مجالاتها قطاعات حكومية و قضائية وصلت إلى مجال التدبير الحزبي و النقابي و الجمعوي. صاح أحد ممتهني الإنتماء الحزبي بأعلى صوته بأن رفيقه الرئيس طلب منه بعض الملايين لكي يحصل على مسؤولية بمجلس مدينة. و تأكد أن الكثير من الساعين إلى المسؤولية الجماعية تحكمهم رغبة جامحة في الاغتناء السريع. و لمن لا زال يشك فأفلام اليوتوب تؤمن مشاهدة العورات السياسية. و الأكثر من هذا أن بعض الزعماء الوطنيين دخلوا معترك الانتخابات بنية “سليمة ” دون أن يطرحوا سؤال “من يمول حملتهم الانتخابية ” . قد يكون الممول تاجر مخدرات معروف و تصبغه الخطابات بصفة المتعاطف مع الحزب التاريخي.
الأمر يتعلق أيضا بتدبير المؤسسات و القدرة السلبية على تدمير ثقافة الإلتزام و ربط المسؤولية بالكفاءة و المحاسبة. صرح لي أحد مسؤولي مؤسسة عمومية أن الموظفين يسيرون على خطى المسؤول. إن تعود على الوصول متأخرا إلى عمله وصلوا متأخرين و إن كان حازما احترموا قواعد أداء الواجب. نعم يجب أن نغير أنفسنا في واقعنا اليومي. أغلبنا لا يحترم قواعد المواطنة في أداء واجبه المهني و إحترام قواعد السير و قواعد النظافة و إحترام البيئة و عدم التغول على الناس. أغلبنا يخاف من القاضي و رجل الأمن و الموظف السامي و غيرهم من المسؤولين و يحاول التقرب منهم، و لكن لا يحمل لهم أي إحترام. ثقافة الخوف أنتجت ثقافة “الهمزة” و ثقافة الكذب و النفاق و التنكر للأصدقاء و الإخوان و السعي إلى المال الحرام و الاغتناء السريع.
التظاهر بالغنى و القرب من السلطة و ركوب السيارات الفارهة و اقتناء السكنى الراقية و السفر إلى اقاصي الأرض و امتلاك الجواهر، أصبح سلوكا يوميا ارخى بظلاله على تصورات المواطن العادي و غير العادي لواقع البلاد. “هل تعرف من أنا؟ هل تعرف مع من تتكلم؟ هل تريد أن تدخل السجن؟ هل تريد أن تدفع ما تأخرت عن دفعه من ضرائب؟ واش بغيتي تخرج على راسك؟ هذه بعض من التهديدات التي يسمعها بعض المواطنين يوميا. بعض المغاربة من أبناء جلدتنا لبسوا قناع الطغيان و ظنوا أنهم متفوقون على كل إنسان و يعبرون يوميا عن قدرتهم على إيذاء من حاول الدفاع عن حقه و حتى عما امتلك من حيوان.
فنغير أنفسنا بالتعود على قول الصدق و لو ضد اقرباءنا. كثير ممن زاروا شواطئنا هذا العام من مواطنين قدموا من الداخل و الخارج لاحظوا ظواهر غريبة. غياب كبير للسلطات و عدم حماية المواطن من أصحاب السترة الصفراء و أصحاب الكراسي و المظلات و ممارسي العنف الكروي على الشاطىء و غيرهم من أصحاب السوابق في الاعتداء على الآخر. كل هذا في ظل غياب شبه تام للسلطة التي يجب أن تقمع كل من يؤذي المواطن. المقصود هنا ما يحصل على الشواطئ و على الطرق من تجاوزات و ليس اؤلئك المناضلين من رجال الأمن الذين يحاربون الجريمة و الذين من حقهم إستعمال سلاحهم الوظيفي لحماية المواطن و حماية أنفسهم. و هذا حق مكفول بقوة القانون في أعرق الديمقراطيات.
فلنغير ما في أنفسنا من اتكالية و الإعتماد على الغير و عدم الرغبة في محاربة تجارة التسول التي غزت ازقتنا و شوارعنا في كافة مدننا . المتسولون لهم أسواق و أكاد بورصات تبدأ العمل بعد ظهر يوم الجمعة. كثير من المتسولين ميسورين و بعضهم يمتلكون سيارات و عقار. هؤلاء يستغلون حالة نفسية يعيشها بعض الطقوسيين الذين يعتبرون صدقات يوم الجمعة ذات قدرة على محو كل الذنوب بما فيها مغادرة مكان العمل و الغياب بعد الصلاة و عدم أداء الواجب. هناك من المتصدقين من يغادر المستشفى العمومي للعمل خفية في مصحات خاصة وذلك طمعا في تجاوز السيئات بالصدقة و الطقس الديني. و بالطبع يقبلون المال الأسود و الهروب من أداء الواجب و يحملون سبحة تساعدهم على الإستغفار. الذي يعيش على الريع هو متسول بدرجة بورجوازي و فقير في مضمار المواطنة.
كثيرة هي الأشياء التي تعرينا في واقعنا اليومي كمواطنين. لا نهتم بنظافة مدينة و لا نحترم قانونا في مجالات البناء و السياقة و أداء الواجب المهني و التضامن مع الغير و المشاركة في إختيار النخب السياسية و متابعة العمل الجماعي و التبليغ عن المخلين بأداء الواجب. فلنغير ما بأنفسنا من أمراض في مجال احتقار الغير و التبذير و القدرة على اختراع كل أنواع الشتائم و تغييبنا للعقل حين تشغلنا الرغبات عن عدم قبول الكذب بكل أنواعه. و قد قيل أن ” الكذاب يغلب الطماع” .
و الأهم المفيد أننا لم نعر الإهتمام الكامل للتعليم و التربية و للصحة و العمل. فرطنا كثيرا في التعبيرات الثقافات الراقية و انزلق المجتمع إلى الحضيض و ارتفعت قيمة التفاهة و تعبيرات الأجسام على حساب تعبيرات العقل و الإحساس و الجميل من الكلام. الفنان في يومنا فقير و الجاهل بالفن ذو جاه و تقدير و كثير من المال و كثير الظهور في الحفلات و على التلفاز. ما دمنا نرفض تغيير ما بأنفسنا فلن نغير واقعنا. سيظل الكثير منا بعيدا عن الطريق و سنظل مهتمين بالقضايا الصغرى على حساب التغيير المطلوب لكي يحطم وطننا كل الحواجز و يدخل إلى التنمية من بابها الواسع.
غلبتنا روح الكسل الفكري و العملي و اصابنا مرض المحاباة و السكوت عن الحق . التطبيل و “سيدي و لالا ” لكل من تحول إلى زمرة الأغنياء الجدد دمر فينا قيم التضامن و قول الصدق. و لهذا دخل إلى مؤسساتنا المنتخبة غير المؤهل و صاحب النية الجرمية و من يحاكم حاليا بتهم تهم المال العام. نعم نحن السبب وليس من هجم على الشأن العام بنية الإساءة إليه. هل يعلم بعضنا أن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية مرت أمام البرلمان بالإجماع على رفض شرط الشهادات الجامعية و غيرها لتحمل المسؤولية التمثيلية.
يجب أن تتوفر الإرادة السياسية لزعزعة سلوكنا اليومي و سلوك النخبة الإقتصادية و الثقافية و الدينية من أجل بناء العقول و محاربة قيم الرجعية و فكر الخرافة و توسيع مساحات عدم المحاسبة. التغيير هو مفتاح حماية الوطن و جعل ركنه من حجر و سقفه من حديد و قدرته على خلق ثروات من ثرواته بالعلم و التربية و المعرفة. إن السماء لا تمطر ذهبا و لا فضة و لا تحولنا من مرضى و أميين إلا أخذنا بالأسباب عبر سياسات مضبوطة و تقييم مضبوط و محاسبة صارمة.