آخر الأخبار

فن الملحون بين السرادة و الإنشاد

تُطرَح على قصيدة الملحون في وقتنا الحالي مجموعةٌ من التحديات في إطار التجديد ، ومواكبة الأذواق والطِّباع ، ومسايرة المستحدثات العصرية مع التقيد بالاحترام التام لكل التجارب التي نجحت وتلقفها أهل الميدان والجمهور المُعتَبَر بالقَبُول والترحيب .

في المقارنة بين مفهوم أداء قصائد الملحون بيننا نحن المغاربة ، وبين بعض الجيران كنت أصرح بأن مفهوم الإنشاد كما نعرفه في المغرب هو مرتبة ثانية ومتقدمة على معنى السرادة التي تُتَخذ قالبا غنائيا في الجوار ، ولعله دليل قوي على مغربية الملحون في الأصل ، فطرق الإنشاد عندما تمر من مراحل ، وتستقر في مرتبة متقدمة على مرتبة المُقَلِّد ، أو التابِع تصلح للاستشهاد على البدايات ، وتحديد الجذع من الغصن ، والأصل من الفرع .

مصطلح الإنشاد له مفاهيم عديدة ومتنوعة ومتداخلة في آن واحد ، تجمع بين الكلام ، والصوت ، والمعنى ، والتأطير الموسيقي العام الذي يتحول إلى لباس أو ( فراش ) يتمدد بتمدد الكلام والصوت ، وهنا يظهر دور كل عنصر وأهميته في تجويد الأداء ، وإيجاد نقط الالتقاء والتداخل ، والتفاعل الذي يجمع كل المكونات المذكورة لإبراز مكامن الجمال والتأثير داخل قصيدة الملحون .

وهذا المستوى في التنوع والسبك كما رأيناه في مستوى الإنشاد ، لا يصل إليه مفهوم ( السرادة ) على اعتبار أن الصوت يهيمن أكثر مقارنة ببقية العناصر التى تعزل في لوحات مُكَمِّلة ، تقوم بترطيب جو الأداء ، والترويح عن السارد ، وتخليص المتتبع من عناء الانتباه والتقصي المتواصل .

ما قلته كان عبارة عن محتوى مهاتفة صديق عزيز من منشدي الملحون ، المشهود لهم بمدينة مراكش ، وممن لا يزال يبحث بشغف شديد عن كيفية إنشاد عيون شعر الملحون بطريقة يتمنى أن تكون حائزة على شيء من التطوير والتجديد ، مع الاحترام والتقيد بالقواعد الأساسية للإنشاد الناجح ، وبجميع مضامينه المغربية التي جعلت منه مكونا أساسيا من مكونات الهوية الفنية للشعب المغربي .

عندما استمعتُ لبعض النماذج المقترحة ، وأظهرتُ له معاني السرد والإنشاد كما أفهمها بينتُ له موقفي : إنني لا أمانع في كل إضافة معتَبرة ، قائمة على العلم والمعرفة الفنية التامة والمحيطة بفن الملحون كتابة وإنشادا عبر التاريخ ، ولاسيما تلك اللحظات التي حصل فيها مفهومُ التطور ، وكيفيتُه ، وأسُسُه في النجاح والانتشار .

التجديد والتطور الناجح والمُعتَبر لا ينبغي أن يكون نزوة ، ولا موضة ، ولا تهورا تحت ضغط الذات ، ولا ترضية لهذا الطرف ، أو ذاك ، ولا يعتبر كذلك قناة للشهرة والاسترزاق…..وإنما هو ضرورة ملحة لزرع روح العصر في أوصال الملحون ، ولمواكبة المستجدات في علم الموسيقى ، ولتكييف مستلزمات الأذواق عند الجيل الحاضر ، وتوظيفها لصالح قصيدة الملحون ، مما سيجعل منه فنا حيا ، وذا أثر واسع ، وتأثير مفتوح على المُولَع والمتذوق في القديم والجديد .

أرشدتُ هذا الصديق إلى طريقة الملاءمة بين رغبته الجامحة في التطوير ، ومعطيات العصر الموسيقية خاصة ، ودعوته للاستنجاد بالمصطلح الذائع عند أهل الملحون بهذه التسمية : ( لفراش ولغطا ) وطلبت منه أن ينظر في كيفية توسيعه حتى لا يبقى حِكرا على شكل القصيده كما هو الأمر الآن ، وقلت له إن استطعت أن تأتي بتَوْلِيفة تُدمِج فيها الموسيقى بمفهوم ( لفراش ولغطا ) ولا تقف بها عند حد التمدد المعنوي والإيقاعي المنطلق من بداية إلى نهاية ، وأنتجتَ بها صيغة جديدة متحركة في كل الاتجاهات وبالتنويع المطلوب في الأداء صوتا وموسيقى ، ربما ستنجح محاولتك في إطار العلم والمُدْرَك والمقبول من لدن الجمهور الخاص والعام .

سايرتُ هذا الصديق في مطلبه لاعتبارات ذاتية أومن بها إيمانا كليا على رأسها أن الصديق المذكور من أهل الحرفة ، وله قدم راسخة في مجال الإنشاد ، وهو شغوف بفن الملحون ، وذو معرفة محترمة بقواعده ، وله مجالسة طويلة مع شيوخه الكبار ، ثم يضاف ما أعتبره واجبا حتميا لطرح سؤال التجديد النافع من لدن أهل الملحون ، حتى لا نفاجأ بالدخيل يُقحِم علينا المجال بأدواته الضارة على كافة المستويات ، وقد بدأت مثل هذه الاقتحامات المُزْعِجَة تُرَى وتَحْدُث في الزمن المعاصر ، دون أي اعتبار لما فعله الأجداد والأجيال المتقدمة والحاضرة لتحصين قصيدة الملحون من كل عبث .

إن التجديد الذي يشارك فيه أهل الملحون – وأقصد الشعراء والموسيقيين والباحثين ، وكُلَّ ذي صلة – بأدواتهم المعرفية والفنية ، وتتضافر فيه جهودهم النيرة في الكشف والفهم ، والتأطير والإضافة سيكون ناجحا ومعللا بقواعد العلم ، ومستلزمات الفن ، ولهذا سأبقى داعيا ومحتضنا لكل دعوة قائمة على المعرفة العقلية والفنية المقبولة التي تحدد منطلقاتها وأهدافها ، وتكون لها دوافع منطقية واضحة ، تحميها من نعرات الذات الجاهلة ، وتزودها بمقاصد الملاءمة واستيعاب ما تواءم من منتجات العصر في ميادين الفن بصفة عامة ، كما رجوته ألا يقف بجهوده عند القصائد التي تروج في مجال الإنشاد ، وهي من عيون فن الملحون حتما ، ولكنها قليلة جدا أمام كَمِّ ديوان الملحون ، لعل وعسى نؤسس لمفهوم الجدة والتطور من داخل الملحون نفسه عن طريق توسيع دائرة المُنْشَد من القصائد ، لنتعرف على وجوهها الفكرية ، وعلى جودتها الفنية ، بدل الوقوف والاكتفاء بالمشهور الرائج الذي يتكرر في كل المناسبات إلى حد الملل ، وهو تبخيس يعاني منه الملحون على مستوى الإنشاد منذ القديم .

وقد كنت أهدف من وراء هذه الدعوة إلى تحقيق هدفين اثنين : الهدف الأول هو تحقيق معنى التجديد من داخل الملحون كما قلت ، وبصيغة الإنشاد المعروفة عندنا ، ولنا تطلع معرفي ، وأمل كبير في العثور على ما يمكن أن نعتبره تجديدا على مستوى الكتابة ، والإيقاع بسبب أن نصوص الملحون لم تُستَقرأ جميعها بتفصيل يقودنا إلى خريطة واضحة وكاملة ونهائية للحسم في المميزات والصفات الفكرية والإنشادية .

ثم الهدف الثاني وهو الدفع بالبحث إلى توسيع دائرة الاهتمام ليشمل جل القصائد المُبعَدة من مجال الإنشاد لحد الآن ، وما أكثرها ، أو على الأقل أن يحيط بمجمل النماذج المقسمة بحسب مفاهيم ( لقياسات ) الإيقاعية .

وهي رغبة إذا تحققت وبأية صيغة…. فإنها سيكون لها وقعها المؤثر لا محالة ، وستُؤَطَّر بأسئلة وأجوبة مهمة ، وسيستفاد منها استفادة عظيمة على كافة المستويات ، وستحمل في طياتها بوادر لمشاريع مستقبلية مشجعة على السير قدما في ميادين التنقيب والبحث الفكري والموسيقي .

د مولاي علي الخاميري/ مراكش.