فيلق المتلصصين.
هم سراق اللحظة بالحواس الخمس كلها بعدما خانتهم قدراتهم للمواجهة. إفتقدوا الجرأة وتملكهم الجبن والهلع . فأصبحوا تنظيما محكما طيعا في يد سيدهم يوظفهم متى وكيف ماشاء ، إنهم يتقنون التلصص وبه ينتعشون. جعلوه راس مال لتجارتهم ورسما عقاريا محفظا. كثيرا ما يعتقد البعض أن التلصص نقل أخبار فقط بين الناس ، بل هو أيضا لصوصية محترفة في أعلى مستوياتها ، هم أناس لاظل لهم سوى أنهم يخدمون ظل أسيادهم. تتحرك أعضاؤهم فرحا بشكل لاإرادي وخارج السيطرة مهما أخفوها وتبدو واضحة للعيان.كلما دخلوا على سيدهم الحاج ، تبدو على شكل بصبصة تعبيرا عن نشوة لاتكاد الساحة تسعهم من شدة الفرح . الساذج من يراهن عليهم في بناء مواقف تصمد أمام أول هبة ريح تغيير، لإنهم من دعاة الإستمرار في عملية استرقاق خفية تسري في هياكل التنظيمات بدون سابق إنذار ، بلابهرجة ولاضجيج.
ما أكثر الفيالق…! وهي تجوب دروب الإشاعة من أجل الترويج لها ومأسستها لتؤدي دورها الخبيث ، للتمكين لمجموعة من الإنتهازيين لاحتلال مواقع لم يبلغوها قط بالإستحقاق. في الحقيقة أمثال كثيرة منها تعيش بيننا فمنها المستور والفاضح وكلها تخدم نفس الهدف ، لوحاولنا جردها ما استوعب هذا المجال الكم الهائل منها ، لكن يبقى المثال الذي سندرجه هنا كفيل بأن يلامس الموضوع من بعض جوانبه.
الحاج شخصية فريدة ، يعيش طريقة خاصة في الحياة من خلال آختيار اللباس يمكن معرفة اليوم الذي نحن بصدده ، الألبسة التي يختارها بعناية في الأيام الإدارية بذلة أنيقة وربطة عنق كافية لتوحي بنفس إداري لبداية الأسبوع مع حذاء يحرص على تلميعه بعناية فائقة و في يوم الجمعة فمخصص لجلبابه الأبيض من الخرقة الرفيعة القادمة من تاونات وبلغة فاسية صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ،مشهد كما جرت العادة يعطي إشارة لمسحة روحانية تزيده وقارا وورعا ومهابة ، لمن لا يعرفه كثيرا أو قاده حظه العاثر لمهاجمة تدبيره وتسييره يلقى الرد السريع فيبادر أحد حاشيته المقربة والمنتشرة في كل الأركان حيث لاتخلو منهم منطقة ، يسترسل في سرد سيرته الذاتية العطرة وبنوع من القداسة التي لاحق لأحد في إبداء ملاحظات حولها و ماعلى الجميع إلا أن يباركها بل يختتمون ذلك السرد الأزلي المتكرر دون ملل بقراءة الفاتحة والختم بالدعاء كفرصة للتمكين للحاج الذي عمر فوق الكرسي المسؤولية لأربعة عقود دون انتخابات ولا تداول. هكذا صاح بأعلى صوت ممزوج بنبرة إنبهار : “ايها السادة لمن لايعرف، نقول في الزمن الذي كان العمل في هذا الميدان نوع من المغامرة لاتقود حتما إلا للسجون وليس لمكان آخر مما أصبح طموحا لدى البعض الذين طفوا على السطح فجأة يدعون النضال والوفاء للمؤسسة ونحن من بنيناها بسواعدنا وبجهدنا والتاريخ يشهد على ذلك : ( كل ما ترونه من إنجاز وماعرفته المؤسسة من إستقرار الفضل فيه يرجع للحاج فقد عانى الأمرين وهو يكابد ويجاهد من أجل تكوين هذه المؤسسة التي ترون ، لم تأت من فراغ لقد قاسى حول بقائها وديمومتها الشيء الكثير ،حافظ عليها من خطوب الزمان وتقلباته حتى وقفت على رجليها كما ترون .”
يستمر في سرد هلامي كثير من تفاصيله . الحاج نفسه الذي أصبح في عقده السادس لم يعد يتذكر الكثير من الأشياء ، تلك الحيوية والنشاط ،فالدوام لله. أين زمان الذي كان يحمل بإحدى يديه حقيبة جلدية من النوع الرفيع. يطوف طيلة الصباح بعدما تناول فطوره ، أروقة الإدارات وهو يوزع وثائق ويتواصل مع زملائه ،لقد اصبح غير قادر على القيام بنفس العمل بعدما تهالك جسده من متاعب ومشاكل الموظفين. واستلذ بوجود تلك الحاشية التي أحاطها بعناية خاصة لتخدم معاليه ،فلم يعد حريصا على القيام بنفس الأدوار بكل حيوية ونشاط كما في السابق . بمساره الطويل المتشعب المليء بالأحداث أصبح الجميع يرى من خلاله : أنه يمثل المؤسسة وهذه الأخيرة تمثله هو. أصبحت راسخة عند البعض يقينا لاجدال فيه ،( أنه هي، وهي هو. إثنان في واحد لاينفصل أحدهما عن الآخر ،فلا أحد يقدر على المس بجنابه ) فهم بهذا الطرح لا يدافعون عن الحاج كما يعتقد البعض لوحده ، بل يدافعون عن مواقعهم هي الأخرى ، ولن يفكر مرة في التخلص منهم لأنهم تملكوا عناصر قوة في مؤسسة تبدو قوية لكنها مع كامل الأسف أضعف مما نتصور . إنها محمية خاصة وصناعة بيروقراطية خالصة ، أنشئت لتقتل الكفاءة في صمت وتواطؤ.
ذ ادريس المغلشي.