بدأت مداخلتي في المناقشات التي نظمتها “الرؤية التقدمية” حول، “اللغة والثقافة”، بواقعة شخصية انحفرت في ذاكرتي منذ الستينيات من القرن الماضي. والواقعة، أنني قرأت لسلامة موسى، في أغلب الظن، جملة أدهشتني حينها بتقابل وجناس محموليها. تقول: “اللغة فكر صامت والفكر “لغة صائتة”. فلا لغة إذن بدون فكر، ولا فكر بدون لغة.
لكن هذه الحقيقة الصائبة، على الأقل، منذ أن أبدع الإنسان اللغة وتطورت معه، قد تحمل، لذهنية رمزية وغير مفاهيمية، إدغاما يأكل فيه كل من المحمولين (فكر صامت، ولغة صائتة) موضوعه أو مسنده (اللغة والفكر)، لغياب التمييز الفاصل بينهما. ولهذا، وجب التمييز والفصل بين اللغة والفكر، قبل الربط الجدلي بينهما.
(1)
وحسبنا، هنا، أن نذكر ببعض الضوابط التي تعيد النقاش إلى نصابه المعرفي القويم، ولمواجهة الخلط والمثالية اللغوية القديمة والحديثة. وأكتفي منها بالتالي :
أولا :الإمكانيات الذهنية للبشر واحدة، وإن اختلفت وتعددت لغاته بالآلاف. ولغاته مشروطة بإنتاج وجوده الاجتماعي، وليس العكس.
ثانيا :اللغة مادة الفكر (وليست هي الفكر عينه)، وواقعه المباشر (وليست هي الواقع). وليس بعالم اللغة يتحدد عالم التجربة، بل بعالم التجربة يتحدد عالم اللغة.
ثالثا:ا للغة محصورة بمعجمها، أما حقل الخطاب، أي تركيب المعاني بالألفاظ، فمفتوح إلى ما لا نهاية. فالتمييز واجب بين اللغة والخطاب. وبهذا المعنى “اللغة حيادية” إزاء لا نهاية تعدد معاني الخطابات.
رابعا :لا إمكانية للمثاقفة بين ثقافات الشعوب، لو كان الفكر تحده وتُعينه لغته. فالتثاقف، وإن كانت وسائطه لغوية، فهو شأن فكري أولا وأساسا.
خامسا : اللغة مرآة الثقافة، وليست الثقافة مرآة اللغة. ليست اللغة هي التي تصنع الثقافة، بل الثقافة هي التي تصنع اللغة من خلال صنعها نفسها بالأداة التي تمدها بها اللغة. والواقع أن أزمة المجتمعات العربية، بما فيها أزمتها اللغوية، تعود إلى أنها (من حيث إنتاجها لوجودها الاجتماعي) مستهلكة، وليست منتجة للتقدم.
انتقيت هذه الأحكام النظرية من مصدريها وبحرفيتها تقريبا. وأنا أعرف أنها تحتاج لتحليل وشرح يطولان.. ومع ذلك، فهي كافية لكي تنبه القارئ إلى أن الخوض في نقاشات الأزمة اللغوية، لابد له من الحسم في تلك الأساسيات.. لأن غياب تلك المنطلقات يسوق حتما إلى استنتاجات فاسدة.. وأدعوكم إلى العودة للمصدرين، ففيهما نقاشات تفصيلية وغنية وراهنية للمسألة اللغوية والعربية بالتحديد: (نقد العقل العربي-لجورج طرابشي- الجزء الثاني) ونقد العقلانية العربية – لإلياس مرقص). أما استخلاصي من تلك الإحالات النظرية، فهو كالتالي : الأزمة اللغوية عندنا، ليست في اللغة العربية حصرا، حتى ولو كانت بحاجة إلى إصلاح دائم. فهي لغة يُشهد لها برصيدها الحضاري الهائل. وهي تتطور رغم كل المعيقات. ولها كل القدرات الذاتية لاستيعاب معارف العصر. الأزمة الأساس هي في أوضاع التأخر المجتمعي العام، وفي تقهقر الإرادة السياسية والحضارية للرقي باللغة في سياق تصور مجتمعي وتحرري شامل.
وبصرف النظر عن المغالطات الأيديولوجية والسياسية التي تحاول أن تختزل الأزمة التعليمية في تعريب كان جزئيا وارتجاليا وعابرا، وكان بلا أفق استراتيجي. تعريب ما كان له قطعا أن يثمر، وجميع الأبواب أمامه موصودة، في ظل فرنْسَنة شاملة لكل المرافق الأخرى، وفي ظل نموذج تنموي يتمسك بالتبعية اللغوية وينمي الفوارق الاجتماعية والمناطقية والثقافية.. بصرف النظر، أكتفي بطرح هذا السؤال الفاصل: هل من الديمقراطية أن يحرم شعب بكامله من اللغة التي تنتمي لحضارته وثقافته، أليس هذا من خصوصية الفوارق الجوهرية بين الديمقراطية والليبرالية عندنا؟ !
(2)
السؤال السابق يعود بذاكرتي إلى وثيقة تحليلية صدرت عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في منتصف الستينيات، يوم كان المجتمع المغربي لا يزال يتطلع إلى النهوض الحضاري. الوثيقة تناولت الشعارات الوطنية الأربعة (التعميم، والتوحيد، والمغربة، والتعريب) من زاوية قدرات النظام على استيعاب أي منها. وكانت الخلاصة آنذاك، أن التعريب هو المطلب الراديكالي الذي يعجز النظام عن استيعابه لارتباطاته بتغيرات بنيوية وجذرية.
وبعد كل هذه العقود التي مضت تتأكد صحة هذا الاستنتاج، بل تزيد عليه أن حتى المطالب الأخرى شهدت اختلالات كبرى، أفقدتها ما كانت تتغياه من نهضة وتحرر. وليس بوسعي هنا تشخيص الأزمة التعليمية، وإنما سأكتفي ببعض الملاحظات عن النقاشات الدائرة اليوم:
أولا من واجب الخصوم أن يمدونا ولو بمثال واحد عن بلد ذي ثقل حضاري جدد واستأنف نهوضه بدون اعتماد لغته أو لغاته القومية (ومع الانفتاح دائما بطبيعة الحال على امتلاك اللغات الأجنبية)
ثانيا :بعض المساجلين يذهب إلى مناورة ديماغوجية مستهلكَة، غايتها تحريف موضوع اللغة من كونه اختيار لنظام قائم، إلى اتهام فردي ينم في نظرهم عن نفاق أيديولوجي من دعاة التعريب، لأن بعضهم يُعلم أولاده في المؤسسات الخاصة ذات اللغة الفرنسية القوية، ويتجاهل هؤلاء، أن من يجعل أفضلية هذا الاختيار، لكل من استطاع له سبيلا، هي ذات المخارج المفروضة على المنظومة التعليمية ومن النظام في مجمله , وهي مشكلة سياسية وليست أخلاقية.
ثالثا :وثمة من يتذرع بالحاجة إلى إصلاح اللغة وتأهيلها، وإلى ذلك الحين، لا مناص لديه من السلوك البراغماتي بين الفرنسية والعربية، ولمن يتجرأ منهم بين الإنجليزية والعربية، إلى ما شاء الله !
هؤلاء المرجئة البراغماتيون يتجاهلون، أن للعربية رصيدا في تجارب التعريب يمكن الاستفادة منه، فالعربية لا تنطلق من الصفر، إذا ما توفر الاختيار السياسي أولا وأساسا. ثم إن إصلاح اللغة يجري في ممارستها لا في تجميدها إلى ما شاء الله.
رابعا :ومن أشد المتطرفين ضد اللغة العربية، من ينسبون لنفسهم، ولوحدهم، الدفاع عن الأمازيغية وهؤلاء بالتحديد يدفعون بالخلط الأيديولوجي بين اللغة والدين والثقافة إلى ما هو الأقصى من التطرف والعداء، ومسعاهم العُصابي هذا، ليس أكثر من تهديم وإنكار أربعة عشر قرنا من الإرث الحضاري الإسلامي، العربي المشترك للشعب المغربي، وسيظل، والذي كان، ولا يزال، للأمازيغيين دور تاريخي فيه. مصيبة هؤلاء أنهم يتناسون لعُصابيتهم الإنكارية أنهم بخدماتهم المجانية للفرانكفونية، يحكمون على الأمازيغية، وهي في طور الانتقال من اللهجات الشعبية إلى اللغة المعيارية المكتوبة، أن تبقى حبيسة هي الأخرى للغة الفرنسية !
وفي الختام، ما يشد الانتباه في هذا السجال حول اللغة العربية، الاختراق الكبير للأيديولوجيا النيوليبرالية المعولمة، حتى في صفوف من كانوا يسمون بالحركة الوطنية والتقدمية والإسلامية أيضا, فالمسألة لم تعد، كما كانت، في غياب الإرادة السياسية لدى الدولة وحسب، بل صارت تعبيراً عن خطر أكبر، ألا وهو انحلال الإرادة والطموح الحضاريين، إذا ما أخذنا مفهوم الحضارة بالمعنى الأوسع (المادي والثقافي والقيمي…). ولذلك، ترى، أن كل قضايا “الهوية” بما فيها الدين، يجري التعامل معها، بلا أفق تاريخي، وإنما، بمنطق سياسوي برغماتي، لا أكثر، وبما يفضي إلى تكريس التبعية والارتجال والتخبط إلى ما لا نهاية !
محمد الحبيب طالب / الرباط