محمد الحبيب طالب
السؤال السابق يعود بذاكرتي إلى وثيقة تحليلية صدرت عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في منتصف الستينيات، يوم كان المجتمع المغربي لا يزال يتطلع إلى النهوض الحضاري. الوثيقة تناولت الشعارات الوطنية الأربعة (التعميم، والتوحيد، والمغربة، والتعريب) من زاوية قدرات النظام على استيعاب أي منها. وكانت الخلاصة آنذاك، أن التعريب هو المطلب الراديكالي الذي يعجز النظام عن استيعابه لارتباطاته بتغيرات بنيوية وجذرية.
وبعد كل هذه العقود التي مضت تتأكد صحة هذا الاستنتاج، بل تزيد عليه أن حتى المطالب الأخرى شهدت اختلالات كبرى، أفقدتها ما كانت تتغياه من نهضة وتحرر. وليس بوسعي هنا تشخيص الأزمة التعليمية، وإنما سأكتفي ببعض الملاحظات عن النقاشات الدائرة اليوم:
أولا من واجب الخصوم أن يمدونا ولو بمثال واحد عن بلد ذي ثقل حضاري جدد واستأنف نهوضه بدون اعتماد لغته أو لغاته القومية (ومع الانفتاح دائما بطبيعة الحال على امتلاك اللغات الأجنبية)
ثانيا :بعض المساجلين يذهب إلى مناورة ديماغوجية مستهلكَة، غايتها تحريف موضوع اللغة من كونه اختيار لنظام قائم، إلى اتهام فردي ينم في نظرهم عن نفاق أيديولوجي من دعاة التعريب، لأن بعضهم يُعلم أولاده في المؤسسات الخاصة ذات اللغة الفرنسية القوية، ويتجاهل هؤلاء، أن من يجعل أفضلية هذا الاختيار، لكل من استطاع له سبيلا، هي ذات المخارج المفروضة على المنظومة التعليمية ومن النظام في مجمله , وهي مشكلة سياسية وليست أخلاقية.
ثالثا :وثمة من يتذرع بالحاجة إلى إصلاح اللغة وتأهيلها، وإلى ذلك الحين، لا مناص لديه من السلوك البراغماتي بين الفرنسية والعربية، ولمن يتجرأ منهم بين الإنجليزية والعربية، إلى ما شاء الله !
هؤلاء المرجئة البراغماتيون يتجاهلون، أن للعربية رصيدا في تجارب التعريب يمكن الاستفادة منه، فالعربية لا تنطلق من الصفر، إذا ما توفر الاختيار السياسي أولا وأساسا. ثم إن إصلاح اللغة يجري في ممارستها لا في تجميدها إلى ما شاء الله.
رابعا :ومن أشد المتطرفين ضد اللغة العربية، من ينسبون لنفسهم، ولوحدهم، الدفاع عن الأمازيغية وهؤلاء بالتحديد يدفعون بالخلط الأيديولوجي بين اللغة والدين والثقافة إلى ما هو الأقصى من التطرف والعداء، ومسعاهم العُصابي هذا، ليس أكثر من تهديم وإنكار أربعة عشر قرنا من الإرث الحضاري الإسلامي، العربي المشترك للشعب المغربي، وسيظل، والذي كان، ولا يزال، للأمازيغيين دور تاريخي فيه. مصيبة هؤلاء أنهم يتناسون لعُصابيتهم الإنكارية أنهم بخدماتهم المجانية للفرانكفونية، يحكمون على الأمازيغية، وهي في طور الانتقال من اللهجات الشعبية إلى اللغة المعيارية المكتوبة، أن تبقى حبيسة هي الأخرى للغة الفرنسية !
وفي الختام، ما يشد الانتباه في هذا السجال حول اللغة العربية، الاختراق الكبير للأيديولوجيا النيوليبرالية المعولمة، حتى في صفوف من كانوا يسمون بالحركة الوطنية والتقدمية والإسلامية أيضا, فالمسألة لم تعد، كما كانت، في غياب الإرادة السياسية لدى الدولة وحسب، بل صارت تعبيراً عن خطر أكبر، ألا وهو انحلال الإرادة والطموح الحضاريين، إذا ما أخذنا مفهوم الحضارة بالمعنى الأوسع (المادي والثقافي والقيمي…). ولذلك، ترى، أن كل قضايا “الهوية” بما فيها الدين، يجري التعامل معها، بلا أفق تاريخي، وإنما، بمنطق سياسوي برغماتي، لا أكثر، وبما يفضي إلى تكريس التبعية والارتجال والتخبط إلى ما لا نهاية !