جليل طليمات
إنه لأمر ذو دلالة عميقة ومفجعة أن تطال حراب اليأس والإجرام أعلاما من أعلام الفكر العقلاني زاوجوا وربطوا جدليا بين المشروع الفكري التنويري وبين الانخراط العملي في معركة الدفاع عن المصير العربي في مواجهة الاحتلال ومؤامراته من جهة ، وضد القوى النكوصية الطائفية المتخلفة من جهة أخرى . فحسين مروة و صبحي صالح ، ومهدي عامل ، وفرج فوذة وسهيل طويلة وغيرهم يشكلون في الذاكرة العربية الجمعية رموزا للفكر المخضب بالدم في زمن التردي العربي, وشهادة مأساوية أخرى على الفكر الذي تحول عبر مسارنا التاريخي الطويل , إلى حرائق ومشانق ودماء مهدورة .
يعد المفكر الشهيد حسين مروة , الذي تحل ذكرى اغتياله الجبان بمسدس كاتم للصوت من أبرز وجوه “الأنتلجنسيا”العربية المعاصرة التي ساهمت بشكل نوعي ومتميز وجريء في وضع أسس فكر عربي إسلامي عقلاني تنويري . إن قراءته لفكر الأقدمين ,كلاما وفلسفة وتصوفا, في ضوء منهج المادية التاريخية تشكل تتويجا لمسار علمي وأكاديمي طويل ومتعدد المصادر, فمشروعه الفكري ممثلا في مؤلفه الضخم “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” لاينفصل عن مسار علمي وأكاديمي وكفاحي طويل, سواء على واجهة العمل السياسي أو على الواجهة الثقافية الأكاديمية العلمية .عن هذا المسا ر, وعن الشروط التي أنتج فيها جزأ ي ” النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” تحدث حسين مروة في سردية ذاتية بعنوان “ماركس دخل حياتي وما أزال في النجف” (نشرتها مجلة الطريق في العد د الخاص بمئوية ماركس , سنة 1986 ), هذه أهم محطاته :
1_ في النجف كانت البداية : كانت المحطة الأولى في المسار الفكري الطويل لحسين مروة من اختيار أسرته ، فبعد الدراسة بالمدارس المحلية بقرية “حداثا ” بجنوب لبنان أرسله والده إلى الجامعة الدينية الشيعية الكبرى بالنجف لاستكمال وتعميق تكوينه في مجال الدراسات الدينية وللتخرج من هناك عالما من علماء الدين . وقد شكلت هذه المحطة الدراسية الأرضية الصلبة التي سيقف عليها باحثا و قارئا ومؤولا للموروث الثقافي العربي الإسلامي الذي انتهل منه الكثير في دراسته النجفية , يقول حسين مروة عن هذه المرحلة المبكرة من حياته العلمية الدراسية :
” رحلت إلى النجف صغيرا، لكن الحلم الذي رحل معي كان كبيرا: أن أصير “شيخا مهيبا ” مرموقا كوالدي (…) هذا الحلم لبسني قبل أن اجتاز الثامنة… ولبستني معه العمامة و الجبة قبل أوانهما الطبيعي”
وفي النجف التي نهل فيها من علوم الدين جميعها, دخل مساره الفكري والعلمي مرحلة جديدة, مرحلة القطيعة مع ” إستراتيجية الشيخ المهيب”، يقول في هذا الصدد :
” لماذا لا أتجاوز الخطوط الحمر الرادعة عن القراءات الأخرى والعلوم” الحلال” وحدها في عرف النظام الدراسي ألنجفي آنذاك ؟” ويجيب بحسم : ” لم أتردد مطلقا … اخترت فورا.. وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم وغابت توا من حياتي إلى النهاية صورة الشيخ المهيب المرموق..” .
ولكن هذه القطيعة أو الاختيار لأفق جديد لم يمنعاه من مواصلة دراسته النجفية و الإبحار فيها أكثر فأكثر وذالك لهدف واحد “العلم دون المهنة ” .
2_المجيء إلى الماركسية : وهكذا دخل مسار حياة مروة الفكرية مرحلة نوعية جديدة أنفتح فيها على ” الدراسات غير النظامية”, يقول: ” هذه المرحلة في حياتي هي مرحلة الخصب المعرفي ، كنت أقرأ الأدب الرومانسي مع الفكر العلمي,مع الكتابات العلمية الخالصة،مع البحت الاجتماعي نظريا وميدانيا”… وقد كانت كتابات المفكرين النهضويين , كنقولا حداد وروايات فرح أنطوان, وميول إسماعيل مظهر المادية احد المداخل الرئيسية لمروة إلى الماركسية يقول : “إسماعيل مظهر وشبلي شميل هذان هما الأصل و الأساس في تحولاتي الفكرية الأولى نوعيا و جذريا ، ولست أنسى سلامة موسى وأثره آنذاك لما كان لكتاباته من اتصال بالفكر الاشتراكي الطوباوي” إلا أن مروة, بحسه النقدي , لم ترحه صورة ماركس كما وردت في كتابات النهضويين (خاصة في رواية فرح أنطوان “الدين و العلم و المال” ) حيث مفهوم حيث مفهوم الاشتراكية ملتبس وغامض في تلك الكتابات ، يقول:
” وقع في نفسي أن ماركس هذا ( أي كما عند فرح أنطوان ) لابد له شأن عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيرا باسم الاشتراكية ، لكن كيف سأصل إلى صاحب هذا الشأن العظيم بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربة هذه ؟؟ بدءا من هذا السؤال بدأت أدخل في العلاقة السليمة مع ماركس: و من هنا بدأ ماركس يدخل حياتي وما أزال في النجف..” .
جاء مروة إذن , إلى الماركسية متشبعا بثقافة دينية موسوعية ، وودع جامعة النجف التي لم يتخرج منها كرجل دين و”شيخ مهيب “, وإنما كمثقف ومفكر جمع بين القديم و الحديث في مخزونه العلمي والأكاديمي : بين ثقافة دينية تراثية وبين ثقافة حديثة ومعاصرة ما سيفتح أمامه آفاقا واسعة للإنتاج المعرفي في مختلف المجالات الأدبية والفلسفية والسياسية حيث ستصبح الكتابة طقسه اليومي في أكثر من صحيفة ومجلة .
3_ الانتماء السياسي للحزب : كان انتماء مروة الفكري للماركسية سابقا على انتمائه السياسي الحزبي, وكما كتب: ” لقد تأخر عني هذا الانتماء أو تأخرت عنه رغم أن الناس كانوا يستبقون إلى تسميتي شيوعيا قبل أن أكون شيوعيا ” .
ويحدد مروة الملابسات والظروف التي حسمت في اختيار انتمائه السياسي الحزبي ، أو كما يسميها “عقدة الانتماء الحزبي” , يقول في هذا السياق : “جاءت أحداث الوثبة العراقية ( 1947) , وانخرطت في هذه الأحداث : في التظاهرات الجماهيرية, في النضال السياسي ، و في الكتابة اليومية للصحف .. لقد هزتني هذه التجربة العظيمة وهزني دم الشهيد جعفر الجواهري شقيق شاعرنا ألجواهري.. اكتشفت أمورا خطيرة فقررت الانتماء ” .
وهكذا أنخرط مروة في العمل السياسي الحزبي ولكن دون أن يحترف السياسة كتدبير للحظة “وإبداع للتكتيكات”، مارس السياسة على واجهة البحث و التنظير انطلاقا من اقتناعه بأ ن مهمة الفكر والثقافة هي استشراف وبلورة عناصر الجواب على معضلات حركة التحرر العربي, النظرية منها و العملية . وفي هذا الإطار اندرجت مختلف إنتاجاته في الأدب و النقد و الفلسفة و الفكر السياسي,
وقد كانت المسألة التراثية في نظره من اكبر تلك المعضلات التي أولاها مروة أولوية مطلقة طيلة بقية مساره الفكري. ويمكن صياغة الإشكالية الموجهة لبحث مروة في التراث الحضاري العربي الإسلامي كالتالي : كيف يمكن خلق تواصل فاعل وخلاق بين التراث الحضاري العربي الإسلامي ، وبين الماركسية باعتبارها حصيلة كل المعارف و العلوم الحديثة, وأداة لتغيير العالم ؟ وبصيغة أخرى ، كيف نبني رؤية وموقفا من ثقافة الماضي يتكاملان مع حاجيات حاضر النضال القومي التحرري والاجتماعي العربي؟
من داخل هذه الإشكالية ستعود من العلاقة من جديد بين مروة و بين التراث : ثقافته الأولى في النجف ، ولكن هذه المرة كالتزام نضالي حزبي،يهدف إلى بناء إيديولوجية معركة التحرر و التقدم و التغيير الاجتماعي.
وقد كشف محمد دكروب ، رفيق مروة في مجلة الطريق اللبنانية أن اتجاه حسين مروة إلى تأليف ” النزعات المادية في فلسفة عربية الإسلامية” كان في إطار “مهمة حزبية” كلفه بها المكتب السياسي للحزبي الشيوعي اللبناني سنة 1968، و يورد في هذا الصدد نص رسالة لمروة إلى قيادة الحزب الشيوعي اللبناني,يقدم فيها ” تقريرا” عن المهمة التي كلف بها, وأنجزها بعد مرور عشر سنوات على ذالك التكليف, ومما جاء فيها :
“من حسين مروة إلى الرفاق الأعضاء المكتب السياسي
في مثل هذا اليوم منذ عشر سنوات بدأت الرحلة الرائدة في عالم التراث الفكري العربي الإسلامي التي شرفني الحزب لأن أكون أول مغامر يدخل نورا في مجاهلها، خارقا أكثر من سور فكري إيديولوجي حول هذا العالم التراثي (… ) وفي هذا اليوم ذاته ترفعني إليكم أيها الرفاق موجة فرح و اعتزاز لأتقدم بأول “تقرير” عن الرحلة, أقول أول تقرير ولا أقول التقرير الكامل لأن الرحلة لم تنته بعد وليس من شأنها أن تنتهي الآن…” (محمد دكروب _ موقع قادمون الإلكتروني) ,
ولم يكن ذاك التقرير غير الجزء الأول من كتاب ” النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ” الذي هو عبارة عن مجلد من 1024 صفحة.!
و في غمرة الجدال الذي أثاره صدور الجزء الأول من قراءة مروة للتراث ضوء منهج المادية التاريخية ، أكمل مروة الجزء الثاني , وبدأ يستعد للاشتغال على الجزء الثالث الخاص ب الفلسفة الإسلامية في الغرب الإسلامي ..و لكن أيادي الغدر امتدت إليه بكاتم الصوت فاغتالت بقية مشروعه الفكري, وأفق انتظار الباحثين والمفكرين, لتتوقفت مسيرته المثمرة والمتفردة يوم 17 فبراير 1987..
4_ تفاعل إيجابي ومتواضع مع منتقديه: في حوار أجريته معه لجريدة “أنوال” سنة 1985 أوضح مروة رأيه في بعض المؤاخذات والانتقادات لمقاربته أو قراءته الماركسية للتراث العربي الإسلامي :
فبخصوص مؤاخذته على الطابع الإيديولوجي لهذه القراءة التي وقعت في ما سماه الراحل محمد عابد الجابري”بالسلفية الماركسية ” علق مروة :” إن كل توجه إلى التراث في مرحلتنا التاريخية هذه إنما يشكل وجها من وجوه الصراع الإيديولوجي في هذه المرحلة”, مؤكدا على أن كل الكتابات التي تناولت مؤلفه تصدر هي الأخرى عن مواقف إيديولوجية .
أما عن مؤاخذته على ” ميكانيكية” التطبيق للمنهج المادي التاريخي, فيعتبر أن المشكلة ليست في المنهج ذاته ,” فنقادي يحملون المنهج ما يجب أن يحملوني إياه .. أنا لا أبرىء نفسي من هذه التهمة, فالخطأ شيء أنا فعلته وليس المنهج الذي فعله , وسيأتي بعدي من سيصوب أخطائي وفق المنهج ذاته”.
إن مختلف المقاربات المنهجية في البحث التراثي لا تخلو حسب مروة من طابع وخلفية إيديولوجيين, سواء كانت المقاربة ابستمولوجية أو تفكيكية أو تأويلية , فهو يعترف بأنه منذ التزامه ” الحزبي” بإنجاز قراءة للتراث العربي الإسلامي قراءة “مادية تاريخية” كان بصدد إنجاز”مهمة إيديولوجية .. نابعة من إلحاحية قراءة التراث وتوظيفه من منطلقات وأهداف المشروع الوطني التقدمي التحرري,” وهي المهمة التي أوقف حياته لأجلها دون أن تكتمل بإنجاز الجزء الثالث حول الفلسفة في الغرب الإسلامي بسبب فعل الاغتيال الجبان له من طرف قوى النكوص والطائفية المتخلفة والفتنوية .وعلى الرغم من وجاهة بعض الانتقادات للقراءة الماركسية للتراث , فإن هذه القراءة شكلت نقلة معرفية نوعية في الدراسات التراثية التي ظلت لقرون أسيرة المقاربات السلفية والتحنيطية والتمجيدية , فضد هذه المقاربات التقليدية والمحافظة, أسست المقاربة المادية التاريخية للتراث رؤية جديدة له باعتباره ( التراث) أحد المواقع الرئيسية في معركة التنوير والعقلانية ,وقربت بذلك نصوص القدماء, من متكلمين وفلاسفة ومتصوفة وعلماء, من جيل جديد من الطلبة والأساتذة والباحثين,ونفضت الغبار كما كتب الجابري”عن المفكرين الكبار الذين نبذوا أو هجرت نصوصهم فأعادوهم إلى صدارة الانتباه والاعتناء العلمي” .
لقد اغتالت قوى الظلام والطائفية المفكر الموسوعي والمناضل الملتزم حسين مروة ، لكن فكره المخضب بالدم بقي حيا, مؤثرا ، وحاضرا في قلب جداليات التراث المعاصرة ,التي تتغيا استكمال “حلمه” بإعادة التأسيس للمشروع الفكري التحرري النهضوي في مواجهة مشاريع الهيمنة الأجنبية , وقوى الاستبداد والنكوص والفتنة باسم الدين والمذهب والطائفة…