جليل طليمات
في ذكرى رحيل “سقراط السوسيولوجيا ” ( تحيين لمقالة سابقة لي )
في ذكرى رحيل سي محمد جسوس تزداد حدة الشعور بالحاجة إلى استحضار واستلهام نموذج المناضل المثقف كما تجسد في شخصه و مساره السياسي والعلمي الأكاديمي: ففي شخصه اجتمعت نقدية المثقف, ونزاهة السياسي, وخبرة الممارس الميداني, وأخلاق المناضل الحزبي كما ينبغي أن يكون: متواضعا, زاهدا في المواقع ومبدئيا في المواقف. , فقد ربط فقيدنا بشكل نموذجي بين السياسة وبين المعرفة من جهة , وبينها وبين الأخلاق من جهة ثانية , وذلك بالضبط ما ميز مساره كباحث وقيادي حزبي تقدمي في زمن تسارعت فيه وتيرة التدني ل ” السياسي ” بفعل اتساع الفجوة بينه وبين المعرفي والأخلاقي لعوامل موضوعية وذاتية ليس المجال متاحا هنا لتحديدها وتناولها بالتحليل ..
من بين مكونات فكر و ممارسة سي محمد جسوس, الإيمان بالحوار في تدبير جميع القضايا الخلافية الكبرى , قال فقيدنا سنة 1997 في إحدى المناظرات : ” أعتقد أنه يجب التعامل مع القضايا الكبرى مثل المرأة , مثل الحداثة , مثل مسألة العلمانية والثورة العلمية والتكنولوجية لا من منظور سياسوي , بل من منظور يقدر المسألة حق قدرها… وأعتقد أن هناك الكثير والكثير الذي يمكن لهذا المجتمع أن ينجزه بطرق وفاقية وحوارية ” ., فما أحوجنا اليوم في ظل الضجيج السياسوي السائد, والنقاشات ” المتوحشة ” في غالب الأحيان , لتلك القضايا التي أشار إليها إلى تمثل والتشبع بهذه الروح ” الوفاقية والحوارية” لما فيه مصلحة وطننا وتقدمه الديمقراطي والتنموي.
وهو المهووس بالمعرفة ,كحفر في الميدان لا كتأمل في انعزال ,ظل يوصي بتطوير البحث السوسيولوجي و الإهتمام بسؤال مستقبل درس السوسيولوجيا , قال في 2009 أمام جمهور من المهتمين في حفل تكريمه من طرف جمعية أصدقاء السوسيولوجيا :
” لدي توصيتان : أن يقع مجهود لإنجاز بحث واسع حول مهنة السوسيولوجيا , ماذا حدث للطلبة الذين مروا من الشعبة الأصل والشعب التي جاءت بعدها ,ماذا حدث لأساتذتها ؟ ..”, والتوصية الثانية عقد ندوات فكرية مختلفة وفتح نقاش حول تدريس السوسيولوجيا , كيف يمكن أن نطورها ..؟ ”
لقد كان الفقيد يعتبر دائما أن الأولوية في التغيير ينبغي أن تعطى للمسألة الثقافية , ولكل ما يرتبط بها كاللغة والهوية والتحديث الفكري والسياسي, ودعا في أكثر من مناسبة إلى فتح حوار وطني من أجل إقرار ما سماه ب ” الميثاق الوطني للتنمية الثقافية” . كما كان للفقيد إحساس حاد بخطورة الوضع اللغوي ببلادنا منبها إلى ضرورة الإسراع في تداركه بسرعة وإلا كما قال ” فإن الأمور ستتجاوزنا بسرعة , سوف نصبح مجتمعا لا يتوفر لا على لغته العربية , ولا على لغته الأمازيغية , وسيكون الرابح الكبير في هذا المجال هو الغرب..” .
لقد ساهم “سقراط السوسيولوجيا “( كما يسميه البعض) بتواضع العلماء في صياغة ملامح مدرسة سوسيولوجية ربطت بشكل عضوي بين البحث السوسيولوجي الميداني , وبين حاجات الفعل السياسي إلى مشروع رؤية تحليلية للمجتمع المغربي تستوعب تحولات بنياته الاجتماعية والذهنية , وتؤسس لممارسة سياسية و حزبية قائمة على برامج ومخططات عمل تستجيب لحاجات التنمية والتقدم والبناء لدولة حديثة فعلا .. وكان الفقيد المعلم , في كل ذلك , يميز بين واجبه ” كمثقف ملتزم” وبين ” الحقائق العلمية الثابتة” , ويرفض الإدعاء بتوفره ” على منظومة فكرية عامة” , قال متسائلا بهذا الخصوص: “هل من الممكن الوصول إلى منظومة فكرية بغير الاعتماد على مختلف أشكال التطفل والشعوذة والدوغمائية والأحكام السريعة ؟” , معتبرا أن ما قدمه مجرد ” اجتهادات ينطبق عليها الحديث النبوي الشريف ” من اجتهد وأصاب فله أجران , ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد ” .. إنها كلمات تفصح عن ما ميز فقيد السوسيولوجيا المغربية من فكر منفتح وإيمان بنسبية الحقائق , وتواضع الكبار.
رحل سي محمد جسوس المناضل التقدمي و”المثقف العضوي”, والأستاذ لأجيال من السوسيولوجيين المغاربة ..ولم يمت , ستبقى مناقبه وأعماله وسمات شخصه المتفرد راسخة في نفوس كل من كان لهم شرف رفقته سواء في معترك البحث السوسيولوجي أو في معترك النضال الوطني الديمقراطي التقدمي .. ذلك هو عزاؤنا فيك أيها الفقيد / المنارة .