آخر الأخبار

تأمل في مقاييس الزمن النفسي

محمد خلوقي

النفس الانسانية، احيانا ،تصنع زمنها بشكل غريب ، ومخالف للزمن الفيزيائي الناتج عن الدورة الفلكية الطبيعية ، فقد تصير معها الدقيقة يوما ، والساعة دهرا ، أو تلبس المدة الزمنية العاديةُ حُلَّة ًمن الجمال اوالقبح ، او تجعلها النفس ُ ظرفا يُؤثثه الخوف او الامن ، او الرجاء او اليأس ، انه الزمن النفسي ، زمن يخالف كل القوانين الكونية ، ويُحيِّر العقول و الالباب البشرية ، لان مقاييسه ليست دقيقة ًولاعلمية ، بل غامضة وغرائبية ، ومتفاوتة الاطوار من شخص لاخر ، ويتحكم في ذلك اصناف المشاعر المتضاربة ، والمواقف الحياتية غير المتجانسة ، والدفقات الوجدانية المتوالية ، ولتقريب ذلك ، نأخذ مثالا للشخص الذي يكون بانتظار خبر مهم ، او نتيجة تحليل تخص وضعه الصحي ، فيجد ان تلك اللحظات من الانتظار هي أطول وأبطأ ساعات عاشها في عمره، والسبب في ذلك انه يقيس زمنها، ودورتها الفلكية بزمنه النفسي ، المدبوغ باحاسيس من مثل الشوق ،اوالرغبة ، او الرهبة ، وكذلك الامر يكون حين تجالس صديقا مفضلا ،او حبيبا مقربا ،فتشعر ان الوقت الطويل الذي قضيته بصحبته ، قد مر بسرعة ، وكانك ما جالسته الا لحظات وجيزة، والعكس صحيح ، والسبب وراء ذلك يرجع الى نفسيتك المشتاقة والتواقة لهذا اللقاء، او قد يبدو الزمن في مواقف اخرى بطيئا ، كسيحا لا يتحلحل ؛حين تكون نفسيتك في وضعية النفور من اشخاص بلهاء ، اغبياء، ربما فرضت عليك الظروف مجالستهم او معاشرتهم .
وساقف عند هذا الزمن النفسي عند كل من السجين والمثقف والعاشق

١-👈الزمن النفسي عند السجين :
الزمن النفسي عند السجين هو أشد ثقلا وتثاقلا ، بحيث يتحول عنده الوقت الى آلة جهنمية للتنكيل والتذكير بذاك العذاب النفسي المتواصل ، فيوخزه زمن السجن والاعتقال لانه يحول دون معانقة حريتَه المنشودة ، ويزداد ألمه اكثر، حين يعد ما مضى وما تبقى من زمن العقوبة. وتحضر الرغبة والشوق والندم ، ويعصران النفس عصرا ، ليتمدد معها الزمن النفسي الى تعذيب متواصل .

٢-👈الزمن النفسي عند المثقف :
باعتبار ان المثقف دائما يرغب في التغيير نحو الافضل ، فان زمنه النفسي -مقارنة بالفيزيائي- يكون وخزه وثقله أشد وطْئا عما يشعر به عوام الناس ، لكون المثقف يعيش بين الكتب واحداث التاريخ، ويسبح باستمرار في عوالم الفكر والحضارة والحداثة ، وكل ليلة -بعد ان ينتهي من قراءاته ومداخلاته ومحاضراته – ينام بين احضان الامنيات والرغبات نحو التنوير والتجديد ، ويحلم في مناماته باحلامه الوردية الجميلة ، فيعانق فيها الحرية ، ويشم منافع التغيير ، ويلامس كل تفاصيل التبدل والتطور الذي مرت به الامم والشعوب ، وحين يستفيق يجد واقعا مجتمعيا راكضا ، وافكارا وسلوكات يغلفها الجهل والكبر والتخلف والظلامية،
، فتتعذب نفسه ، وتتألم ، ويشعر وكانه هدهد سليمان ، لكنه في زمن غير زمن سليمان ، انه زمن العوام والنوام . ثم يعود الى اوراقه وكتبه يطلب ويبحث فيها عن النجاة ، ويمني النفس المترنحة بالذي يجب ان يأتي ، ولكنه لم يأت بعد .

٣-👈الزمن النفسي عند العاشق:
هذا الزمن سواءتعلق الامر فيه بلحظات الانتظار ، او الوصل واللقاء، فانه يبقى زمنا غريبا وعجيبا ، لانه يجمع عند العشاق بين إحساسين متقابلين : احساس اللذة والالم ،
-فاما الالم ، فانه يحصل من جراء طول انتظار العاشق لتلك الجرعة من الدواء ،
-واما لذته فانها تتحقق بلحظة الوصل والعناق ، والارتواء برشفات من ذاك الماء.
نعم ان ساعات الوصل عند العشاق هي الاسرع ، وساعات الهجر هي الاثقل .
انها قوانين الزمن النفسي ومقاييسه التي تفوق اي تصور عقلي ، او اي ادراك منطقي .
نستنتج من هذه التأمل ان النفس هي التى تصنع زمنها ، وتلبسه من الجمال والقبح والطمع والرجاء والخوف والسكينة ، واللذة والالم ما يناسب وضعها ، فالزمان الفيزيائي هو هو ، لا يزيد ولا ينقص عن نواميس الكون التي خلقها الله ودبرها.لكن الزمن النفسي له مقاييسه الخاصة.