نظمت مؤسسة كنانيش بمراكش لقاء ثقافيا احتفاء بإصدار مسرحية ” زورق أيلان ” ذاكرة التيه الربيع العربي، للمسرحي محمد أمين بنيوب، بمقر الجماعة الحضرية بمراكش، شارك فيه العديد من المهتمين بالمسرح و الثقافة بمراكش، يتقدمهم المسرحي عبد اللطيف فردوس الذي ساهم بقراءة متميزة جاء فيها :
” لن ادعي بأنني سأقدم أمامكم، مداخلة محكمة الصنع أدبيا ونظريا، ومع ذلك فإن هذا العمل المسرحي: زورق ايلان. ذاكرة التيه الربيع العربي، قد فتح شهيتي وشجعني لأخوض في بعض تفاصيله المؤدية إلى تقاسم وحوار مع صاحبه ومعكم أيضا.
تفاصل لا تخلو من بتر واختزال، إن لم أقل، انزياحات غير إرادية، لاشك إن القراءة بالمعنى المباشر وبالمعنى التأويلي قد افتعلتها في ما كتبت، ليكون مجرد محاولة لإبراز أبعاد، أسميتها هنا، بالأبعاد ” السهلة” في هذا العمل، تاركا الأبعاد المركبة والمتعددة الأوجه والمسارات والمصائر، لقراءات أكثر تجدرا في النقدين الأدبي والمسرحي.
وهكذا فإن قراءتي هذه، هدفت إلى الخوض في القضايا الكبرى لهواجس المؤلف عبر شخصيات عمله الدرامي، باعتبارها شخصيات ومشكلات، أو حتى إشكاليات، سوسيوثقافية وسياسية ومصيرية، بالنسبة لوضع تأخري تاريخي مأزوم ويزداد تأزما وانهيارا باطراد
” زورق ايلان. ذاكرة التيه الربيع العربي”، إذا كانت هذه القراءة هي ما كتب المؤلف، عنوان على غرار باقي عناوين مسرحياته، صيغ بشكل تبئيري على أحداث تقع يوميا، زوارق الموت، غرق الأطفال، ايلان، وايلان وايلان. في كل شهر في كل يوم وفي كل لحظة، ايلان تلتهمه الأمواج لتلقي به على الشواطئ. أراد المؤلف أن لا تمر هذه الإحداث وتصبح روتينا أو يطويها النسيان. ايلان ليس مجرد طفل مات غرقا في محاولة يائسة لهجرة أسرته، انه جريمة جغرافيا لا طفولة فيها، ينحل فيها التاريخ أترابا أترابا، ويتحول الضحايا أبطالا من سندس مبلل بأوسمة العار، ليفتخر به كل من أصابه جنون العظمة ضد الغير.
تسائل المسرحية المكانة الاعتبارية لإنسيتنا، وبذلك تبحر بنا كمتلقين، قارئين أو متفرجين، لمواجهة تساؤلاتنا، والتفكير في ماهيتها، ودوافعها. وفي قمة هذه التساؤلات المقلقة ما يغتصب إنسيتنا.
صالح، شامة ويارا، ثلاث شخصيات إشكالية تعبر هذا العمل المسرحي وتبنيه. ثلاث قضايا في قضية واحدة أسس بها المؤلف ايلاناتها الخاصة والعامة، ولا أريد هنا إن أحدثكم عنها لأنها تستحق تأملاتكم عند القراءة وبعدها، ولكنني سأنقل إليكم طموحاتها وتصديها لنا جميعا.
فهذه يارا، أيقونة المؤلف وعصارة ذاتيته ، تنبؤنا بما حل بها وبنا وبالوطن كله، الوطن في أبهى حلله متخلصا من مستعمره، محتفلا باستقلاله، كما شخصه صالح، يارا تتلقفه فتصيح: ” كل واحد منا يحمل جسرا أليما يتجاوز طاقته الإنسانية (…) غدر التاريخ وشخوصه (…) الطائفية، الحرب، العصابات، أسواق النخاسة، الهجرات” ( وأضيف انأ: الاستبداد، الفاشية، المزايدة، الضعف). – وتتابع يارا : “من يشتري بضاعة إنسانية كاسدة؟ ما سعر الإنسان؟…الطوفان اكتسح الأخضر واليابس…” من الصفحتين 42/43
تلك تساؤلات تغنيها المسرحية بأخرى متساوقة معها، تفكك الذات وتأزمها وتنتقدها حتى قبل أن تهاجم غيريتها، تكثف فحصها لأورامها، وان لم تسع لتقديم وصفات جاهزة لعلاجها، أو شعارات محبوبة تخفف من وطأة أوبئتها.
فيا وطنا تبجله ذاكرة مفرغة من هواء الأمل. فيا وطنا، هو هنا، هو هناك، ثم لا هنا ولا هناك: سوريا مغرب الشرق، لمغرب الغرب.
من مونولوغ إلى آخر يطارده او يهرب منه، يخبأ المؤلف مرة بدعوى الطوفان، يدعوه فلا يكتب، فيتملكنا الشك فيهما، في المؤلف وطوفانه…أيها الكاتب اكتب أسماء الخواء فينا كما نكتب، مارس ديمقراطيتك، لأنها أسماء الحق والباطل، ادع الأشياء تستجيب لك، وألا دفعت بك ياراك أن تحل محل مخاطبيك ترسل رسائلك ولا تصل، تصل ولا تعود، أو كما قالت فيك وفينا يارا: ” ولا رسالة واحدة الفت بين قلوب أبناء هذا الوطن الواحد. ماذا يكتبون ويخطون. لا اعرف!! الأكيد إن كل الرسائل انفجرت ألغاما، تدحرجت كلماتها حقدا وكراهية وطائفية” من الصفحة 42. بؤرة عمليات هذا العمل المسرحي الجاد، الذي يفرغ الوطن من أوهامه، ويفرغ الأوهام من وطنها لصالح أن لا يكذب هذا الألم، وله أن يرفع صوته في وجه العبث المبثوت فينا، وأن يبصق في وجه سادة الزيف وفي وجه الزيف نفسه، ها هو صالح يبعثر أصنام التماضي، ويبعثر أوراق المؤلف وأوراقنا، أو لعله سرق أوراق المؤلف حتى لا تختلط مع تعاليم الغلاة القداماء والجدد يقول : ” علمونا أن نقف باحترام وإجلال لك أيها الوطن. أيها السادة العظام، أيها السادة الشجعان. احكوا لنا عن فتوحاتكم وبطولاتكم. كنا أحسن الأمم…كنا أخير الناس. أشك أننا أحسن امة أخرجت للعالمين، أمة بداوة وعصبة… ها نحن نثبت للعالم وحشيتنا ومواهبنا، وتفنننا في إتلاف خرائط الأوطان وإعادة رسمها بشكل مضحك وبهلواني. من جنس بشري، يتكلم لغات معبأة بالرصاص والرماد. هجرة من اليم إلى اليم. نزوح من البر إلى البحر. تيهان من ضفاف المتوسط إلى مرافئ الموناليزا…ها نحن وسط الظلام، بلا هوية ولا وطن ولا جواز سفر، فقط أرقام متسلسلة.” من الصفحتين 30 و 31.
ولشامة أن تكلم مؤلفنا بدورها على قمعه لها لأنه هو : ” من تخلى عنا، من تركنا نواجه مصيرنا لوحدنا، إنه الوطن مجرد أكذوبة لا غير، وطن غريب، قذف بنا كما قذف بشامة نحو المزابل الطائفية والهجرات السرية والمزابل الأخرى، التي لم تسمح أيها المؤلف لشامة أن تذكرنا بها فصاحت في وجهك، في وجهنا أيضا : ” تبا لعطارد وزحل، تبا للأهرامات وهولاكو، أنسيت! انأ لست منجنيقا ولا كرة ولا حافلة…” من الصفحة 39. ولا نحن أيها العزيز، فشامة وجه من وجوهنا. إن شامة قامة شامخة لم تنس أن توجهنا نحو صواب يارا، ذلك الصواب الذي إن جعلناه دليلنا نكون قد فكرنا ولم نخف ما أراد الكاتب أن لا يكتب لتصيح فينا شامة: ” على كل حال يارا على صواب، فكرنا، ودماغنا هو دليلنا الوحيد والأوحد لإعادة بناء مصيرنا، المهم هو المحاولة ثم المحاولة، فالطيور لا تتعب، فعندما تتحطم أعشاشها بفعل الرياح والعواصف، فهي دائما تحاول بناءها من جديد، رغم قساوة الطبيعة”. من الصفحة 14
أرى أن المؤلف كان واعيا بقوة شامة، وإن أعطى ليارا، الممثلة وأستاذة المسرح صوتا أعلى. وكل ما قلته هنا لا يعني الشك فيه ولا في شامة ولا في يارا، إنني أخاف فقط من رقيب ذاتي يتحول بريشة المؤلف بالكتابة بالمداد الأسود إلى التخطيط بالأبيض: صحيح في نظري كما في نظر إيقونة المؤلف كما قلت، أن الشك مشروع في ملتي واعتقادي وإن كان شكا في الشك، في كل شيء ومن طرف الجميع تماما كما صاحت فينا يارا: ” الابناء يشكون في الوطن(…) المواطن يشك في الدستور(…) الدستور يشك في نفسه، الابن يشك في العائلة، الزوج يشك في الزوجة، الزوجة تشك في الزوج، السلطة تشك في السلطة، التاريخ مشكوك في أمره “. من الصفحة 17
إن التساؤلات والأسئلة التي تحدثت عنها سابقا والتي تميز هذا العمل، مصدرها إذن هذا الشك، هذا الإصرار على عدم التماهي مع السائد والمفلس والتكراري والتردي.
فإن لم يكن المسرح احتجاجا فلن يكون سوى بهرجة، ومسرحية محمد أمين هاته التي بين أيدينا هي تناثر وصيحات وتنبيهات وإحراجات واحتجاجات علينا وعليكم… وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته