يوسف الطالبي
يعود ظهور كرة القدم إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتكون بذلك منتوجا لفترة العصرنة والحداثة التي تميزت بطفرة علمية كبيرة، سجل فيها العقل البشري خلال قرنين اكتشافات واختراعات تجاوزت من حيث قيمتها ما راكمه خلال كل الحقب السابقة التي قطعها التاريخ الانساني.
وقد عرفت اللعبة على مدى عمرها الممتد على طول قرنين ونيف، تطورات كبيرة، سواء من حيث القوانين والتنظيم، أو من حيث ظهور علوم مرتبطة بها، تهتم بالتدريب والتطبيب ووضع تكتيكات وخطط اللعب وهزم المنافسين، ومع تطور الرأسمالية ستصير اللعبة سلعة تخضع لقوانين التبادل، وستستثمر فيها البرجوازية رساميل ضخمة تفوق ما تستثمره في قطاعات حيوية لحياة مواطني مجتمعاتها، وبالموازاة مع اللعبة والترويج لها ازدهرت طرق ووسائل الإشهار والدعاية وصناعة النجوم.
إلا أن أخطر ما في الامر هو استغلال البرجوازية للعبة وشعبيتها في نشر إيديولوجتها، الهادفة إلى تضبيع وتضليل الشعوب وتحويل نظرها و تفكيرها عن الصعوبات المعيشية التي تعجز الغالبية العظمى عن التغلب عليها، والناتجة عن استفراد البرجوازية والطبقات السائدة بالثروة والسلطة، وتهميش السواد الأعظم من المواطنين وتركهم يتمرغون في الفقر والجهل، وإغلاق السبل أمامهم للاستفادة من الفرص الممكنة، وشرعنة الاستغلال والتمايز الطبقي.
وصار من نتائج هذا الاستغلال، أن تحولت اللعبة من نشاط رياضي ووسيلة للترفيه والترويح عن النفس، إلى ديانة العصور الحديثة وإيديولوجيا تشكل رحى عصبيات تحل محل عصبيات ما قبل الحداثة. وتعود بالانسان إلى عهود قديمة ساد الاعتقاد أنه قطع معها منذ عصر النهضة وفلسفة الأنوار، تراجع يعطي المثال الواضح عن الطابع الرجعي للبرجوازية وإيديولجيتها المعادية للاتجاه العلمي والتاريخي للبشرية نحو الحرية والعقل والكرامة.
وفي المجتمعات التابعة، لم تحد اللعبة عن السياق العام الثقافي والسوسيولوجي، بحيث حافظت على الطابع والدور اللذين طبعها بهما النظام الراسمالي في مجتمعات المركز، مع التلون بلون خصوصيات “المجتمع المركب” بحسب وصف پول پاسكون، فصارت في خدمة الاستبداد وتمجيد الديكتاتورات وعمها الفساد والريع. وتحولت من منتوج لفكر الحداثة إلى استمرار للأسطورة والخرافة، فصار للحديث عن السحر والشعوذة والحسد مساحة واسعة في تفسير الإنتصارات والاخفاقات، لم تقتصر على المتابعين من أوساط شعبية بل امتد هذا الخطاب الى وسائل الإعلام، وصدر على ألسن من يفترض أنهم محللون خبراء في اللعبة.
ويتفكه عموم المغاربة اليوم من انتقال “راق” جزائري من أوروبا إلى الكاميرون، لرقية النخبة الوطنية بعد تعثرها أمام منتخب غينيا الاستوائية، وهي وإن كانت ظاهرة وسلوك، بصرف النظر عما إذا كان رسميا أو بمبادرة خارج دائرة المشرفين الرسميين، متخلف يدعو إلى الاشمئزاز، لكنه ليس شاذا بحيث يعرف انتشارا واسعا، أولا بسبب تغلغل الخرافة في الجسد الاجتماعي التبعي، ولا نحتاج هنا للتذكير باعتماد الملوك والرؤساء والوزراء والنخب ورؤساء المصالح والمسثمرين على أعمال الشعوذة لإطالة أمد مجدهم ونجاح مشاريعهم، وتاليا بسبب الدور الايديولوجي الرجعي الذي يناط بلعبة كرة القدم أداؤه في المجتمع.
في المغرب مثلا، كان جمهور اللعبة ابنة ثورة العقل، شاهدا على قصص تداخل الرياضة والشعودة، إذ، وعلى سبيل التمثيل، كان أحد فريقي الدار البيضاء يشن هجوما تلو الآخر على مرمى خصم من دولة افريقية بملعب محمد الخامس دون يتوفق مهاجموه في إدخال الكرة إلى الشبكة، لينسل شاب من الجمهور إلى أرضية الملعب ويتجه جريا الى حيث الحارس ويخطف شيئا ما من داخل المرمى، زعما أنها تميمة سحرية تمنع دخول الكرة، بعدها بدقائق، أتمر ضغط المحليين تسجيل هدف، فكان للحادث صدقية وحجية أكثر من تجربة علمية جرت في مختبر. وفي مراكش كان فريق الكوكب المراكشي على عهد رئاسة الحاج محمد المديوري، الحارس الشخصي للملك الحسن الثاني، يطوف ليلة مبارياته الحاسمة بالبدل الرياضية للاعبين على أضرحة الرجالات السبعة لمراكش وجعلها تبيت في ضريح مولاي علي الشريف لتتبرك منهم وتفوز بدعمهم في المباراة، يجود الأولياء الصالحون بالبركات والتأييد الرباني، ويتكفل مولاي علي الشريف مؤسس الدولة العلوية برضى وشرعية كل الملوك العلويين.