أن تكون معلما!
لعل ما وقع للأستاذ سعيد ناشيد قد لفت الانتباه لعدة قضايا متداخلة، غير أن أهم ملاحظة أثارت الاهتمام هي كونه مُعيّنا معلما في سلك الابتدائي، ورغم انتدابه لتدريس الفلسفة بسلك الثانوي التأهيلي لسنوات، لم يشفع له ذلك بشيء، وقد بدأ رسالته المثيرة الموجهة للرأي العام، بقوله: ” نعم أصبحت أتسول الآن”، ليس يتسول ما يعيش به فقط، بل يتسول كذلك “التضامن” وخاصة من جهة النقابات!
لكن أغرب ما جاء في الرسالة، ما يلي:
“أنكى الضربة الموالية لم تتأخر حيث قضت مديرية سطات أن أعود إلى التدريس في الابتدائي بالبادية بدعوى الحاجة إلى سد الخصاص”!
وقد أصدرت وزارة التربية الوطنية بلاغا في شأن قضية ذ. سعيد ناشيد التي أثارت اهتماما وطنيا وإقليميا على مستوى العالم العربي. أرجعت الوزارة أسباب الفصل من الوظيفة إلى تجاوزات نسبتها للمعني (يمكن الاطلاع على البلاغ).
فما معنى أن تكون معلما بالعالم القروي؟
إنها المهمة التي قمت بها خلال 34 سنة، وقد عشت وعايشت محنا لا تطاق… فمن حق الرجل بعد سنوات من العمل، وأمام مكانته العلمية والثقافية، وأمام سنه ووضعه الصحي، أن يكون له موقف من العمل بالقرى.
كان عليهم تعيينه في موقع بإحدى الجامعات، أو موّكنا بأحد مراكز تكوين المدرسين، يشفع له في ذلك شواهده ومؤلفاته.. هل من السهل أن يؤلف أحد كتبا مرموقة في مواضيع إشكالية تتعلق بالفلسفة والتراث وعلم النفس واللغة..؟
إن مهنة معلم بالبادية عمل شريف، ومسؤولية جسيمة، لكنها مضنية، إن لم تكن قاتلة، نعم هو كذلك..
معلم البادية عليه أن يسافر يوميا في ظروف مرهقة، سواء بسيارته التي يعرضها للتلف، أو بواسطة النقل الجماعي الذي لا يُقدر قيمة البشر في غالب الأحيان، وعلى المدرس أحيانا أن يتمم الطريق إلى القسم على قدميه..
أما إذا اختار الإقامة هناك، فهو بالـتأكيد يعيش معزولا عن العالم، لأن عزلة العالم القروي ليس هو المسؤول عنها، بل حتى سكان القرى ضحايا واقعهم القاسي في مجمل الأحيان. وكم منهم من يتمنى الهجرة إلى المدن وتغيير الأوضاع، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا لن ينتظر ليلة واحدة.
على معلم القرية أن يبحث عن سكن، إذا لم يكن هناك سكن إداري بجانب المدرسة، هل سيكتري غرفة بمنزل أحدهم؟ وحتى السكن الوظيفي له مسطرة، ويتنافس من أجله عدة مدرسين، منهم من يكون رفقة أسرته، فكيف لمُعين جديد أن يدخل ذلك المسكن كما في حالة ذ. ناشيد.
على معلم القرية أن يسعى على قدميه يوميا لتوفير عيش يومه، وقد يحمل القنينات باحثا عن مورد ماء، وقد يسير في القرى بين الزرائب من أجل دكان يقتني منه بعض الحاجيات.. لهذا في زمن قريب كان يبحث كل من يستطيع عن “نجدة” خاصة لإنقاذه من عالم قاس لا يرحم، وهناك من صبر وتحمل وفاته الركب.
عرفت صديقا وزميلا لم يتحمل العمل بالعالم القروي، فجنّ وبعد سنوات قليلة مات. أعرف آخرين، كل أصيب ب”عاهة” ما، إما اضطرابا نفسيا أو بدنيا، أو إدمانا، أو تهاوى إلى قاع المجتمع وأصبح كأيها الناس بدون ثقافة أو علم أو هدف في الحياة..
مَن سعوا إلى إرجاع ذ. ناشيد إلى البادية، يعرفون ذلك، ويعرفون أنهم يرسلونه إلى “جحيم” حيث ذهاب بلا رجوع.. إلى مقبرة بدون كتاب أو ندوة أو ثقافة.. هكذا صنعوا العالم القروي.
صحيح أن القرى تحولت نسبيا إلى الأحسن في العقود الأخيرة، حيث توفر لجلها الماء الصالح للشرب والكهرباء والمسالك.. ولكن ذلك تأخر كثيرا، حتى أن الأجيال الجديدة في القرى تعتبر ذلك تحصيل حاصل..
لم أقرأ ـ للأسف ـ أي كتاب من الكتب الكثيرة لسعيد ناشيد، وبالتالي لا يمكن أن أعلق على كتاباته وتوجهه، رغم قراءتي لمقالات والاستماع لتدخلات، ولكن هذا لا يكفي.. وأصلا بصفتي معلما أشتغل ستة أيام في الأسبوع بالإضافة إلى مشاغل الحياة الأخرى، لا يتبقى لي الوقت الكافي للانكباب على القراءة العميقة، فقد يتخذ مني كتاب عدة أيام.
غير أن ذ. سعيد ناشيد تبث اسمه ضمن المؤلفين وناشري الكتب وصاحب رأي ونقاش، ويؤكد ذلك حضوره عدة ملتقيات في الداخل والخارج، وحتى تلقيه تكريمات مستحقة.
ويبدو أن مثل ناشيد (المعلم) لا يجد كل الترحيب، ليس فقط لطبيعة المواضيع الفلسفية والفكرية التي يخوض فيها، والتي تجد معارضة من عدة جهات (…)، ولكن كذلك باعتباره شخصا لا يدخل ضمن إحدى الدوائر المغلقة، وخاصة المنتسبة للجامعة، رغم أن الكتابة والفكر بدون حدود، ويفترض أن تثير اهتمام كل مشتغل على نفس المواضيع والقضايا، بمن فيهم أساتذة الجامعات.
دائما ما يلفت الانتباه في تاريخ الفكر والفلسفة عموما مَن لا ينتسبون لدوائر مغلقة، فسبينوزا مثلا المعروف دوره في تاريخ الفلسفة، وقد قارب قضايا الميتافيزيقا واللاهوت بجرأة، حتى أن طائفته اليهودية بهولندا منعت عنه كل علاقة بها، ومنعته من حق الإرث، فاشتغل يصنع المناظر الزجاجية ليعيل نفسه. وكذلك فيورباخ الذي ساهم في تقدم الفلسفة في زمنه، لم تشغله أية جامعة بألمانيا رغم حصوله على الدكتوراه، فعاش في كنف زوجته التي كانت تمتلك مصنعا للفخار. أما قصة كارل ماركس فمعروفة، فرغم كونه من عائلة غنية، لم يهتم بالإرث، ولم تشغله اية جامعة، فانتقل إلى فرنسا، وعمل في صحافة التحقيق، وبذلك اطلع عن قرب على أحوال عمال المناجم والطبقة المسحوقة، واستغلال الرأسمالية البشع، فأطلق بإنجلترا رفقة أنجلز “الاشتراكية العلمية” لتخليص البروليتاريا، وكان صديقه انجلز هو حاضنه… هؤلاء وغيرهم ساهموا من خارج “المؤسسة” في تغيير وجه أوربا ووضع العالم.
وعليه، هل يمكن أن نطمْئِن ذ. ناشيد، ونقول له، عليك بالمعاناة حتى تكون “مفكرا” و”كاتبا”، هذا هو الجحود بعينه.
إذا كان رئيس الحكومة قد وقع على العقوبة المتشددة، وهي الفصل من العمل عوض اقتراح المجلس التأديبي المنعقد بالسطات، والقاضي بالتوقيف ثلاثة أشهر فقط، فهل السيد العثماني كان سيفعل نفس الشيء لو تعلق الأمر ب”فقيه” أو مدرس للتربية الإسلامية، حيث إن منهم الكثير من يُلحقون ب”المجالس العلمية” أو “يتعاونون” معها مقابل تعويضات؟ هل كان ممكنا ضم ذ. ناشيد لإحدى تلك المجالس؟ أظنه لن يقبل..
هل ارتكب مخالفات إدارية موثقة يستحيل إنكارها؟ هذا ما أكده بلاغ وزارة التربية الوطنية، ولكن ألا يشفع له فكره وكتبه؟ إن من يؤلف يقرأ كثيرا، فكم من مال أنفقه ذ. ناشيد لاقتناء الكتب؟ كم من زمن قضاه منكبا على القراءة والبحث؟
قد يكون فعل “الطرد” منبها لواقع مزر يعانيه الكُتاب بالمغرب، وقد يكون “فأل” خير على سعيد ناشيد ليجد مكانة تليق به، ومهنة معلم بالعالم القروي بدورها رسالة وتضحية ومعاناة تفرض على الجميع تقديرها واحترامها.
محمد نجيب كومينة