أو كيف نقدم الملحون للمجتمع ، ونجعل شرائحه المختلفة تلتفت إليه، وتصغي لفرائده ، وتهتم بمضامينه، وتتعرف على هويته الفنية المتكاملة، وتشعر بقوة طرقه الجمالية في المضمون الفكري، والبناء الإيقاعي، والإنشاد الموسيقي ؟ .
بداية يجب أن أشير إلى أنني لا أرى نفعا في الطرح الذي يجيب عن السؤال المذكور من خلال إيلاء الاهتمام بالجوانب الخارجية فقط، ويتغاضى عن الملحون في ذاته، كما دأب على ذلك مهتمون وجمعيات تعمل في المجال المذكور، وأعتبر هذا النهج نوعا من الاستجداء، ومن المواقف السلبية المحيطة بشعر الملحون .
إذا كان فن الملحون هو ديوان المغاربة كما يقال، أو جزء مهم من ديوان المغاربة التراثي فمعنى هذا أنه حاضر في أنفاسنا وتركيباتنا النفسية والاجتماعية، ولا يحتاج لأي دعاية زائدة لما يزخر به ، ويكتنزه من أدوات الفن والإبداع .
وعليه فإن الجانب الذي يهمني من وراء كتابة هذا الموضوع هو تقويم تلك الحركية المجتمعية التي خلقتها مثل المواقف الملاحظة عند عامة الناس، وعند المشتغلين بالفن المذكور، فسوء الفهم والفعل المتبع فَرَّق بين جماعات وأصدقاء، وصَدَّع صفوف جمعيات وقسمها إلى كيانات متناسلة ومتباعدة .
فن الملحون هو فن شعبي، وهي حقيقة لا مِرَاء فيها، والمجتمع بالمقابل يتقدم، ومفهوم الشعبية في ضُمُور أو تَبَدُّل متواصل……فهل نترك الفن المذكور في وضعه الأصلي، أم نقحمه في وسط الفئات المثقفة والمستحدثة في المجتمع خاصة وأنه أثبت تأثيره وفعاليته في مختلف النفوس والهياكل والفئات المتنوعة .
لو كانت الأمور عندنا توزن بمميزاتها الأصيلة، وتبعد عن النرجسيات الذاتية، والحساسيات الفارغة لما احتجنا إلى مثل هذه الوقفة، ولكن توجد مفاهيم مصطنعة وخاطئة، تُبْنَى على تبريرات واهية، بعيدة كل البعد عن المنطق والرزانة والاعتدال والاعتراف، ومع ذلك تنتشر في المجتمع، وتحتمي بما فيه من تزييف وادعاء سلبي .
بعض الناس يرفض الملحون بدافع أنه ينتمي إلى الفئات البسيطة من الحرفيين، وهذا البعض يخاف على وضعيته المجتمعية المرموقة إن اقترب من منتوج الهشاشة في نظره وإن كان يعترف بقيمته في دواخله، وبعضهم يرفضه بسبب لغته البسيطة لأنه (الرافض) في وسطه هو أشهر من نار على عَلَم، ويحسب على الفصحاء والمثقفين، ويغلو كثيرا عندما يُقحم وَهْمَ ثنائية غريبة، تقوم على تعارض متخيل بين الثقافة العالِمة والثقافة الشعبية، وهو لا يعلم أن شعر الملحون يحتوي على لغة رصينة وإن كانت بسيطة تضم الحقيقة والمجاز، والصور التعبيرية الخلابة، وتضم المواضيع العامة والخاصة، وقد كانت لي تجربة ذاتية مع شعر المديح النبوي في دواوين ملحونية عديدة وأنا صاحب الثقافة العَالِمَة العميقة فوجدت فيها الإبداع الحقيقي، والمعالجة الفنية الرائعة، وزودتني بالمعاني المبتكرة، والإضافات الرائقة، ولفتات الفن والجمال التي قَلَّ نظيرها في الوضوح، وترتيب الأفكار، وبناء اللغة، ونصاعة الأسلوب، وصدق المواقف، وقوة التصور والأحاسيس .
مثل هذه المفاهيم والاعتبارات المعوجة هي من أوحت لبعض الجمعيات والأشخاص إلى الرفع من إيقاعهم في تبني فن الملحون عن طريق قطع كل اتصال بينه وبين الفئات الدنيا، ومن باب الوهم يظنون أن ما يفعلونه هو نفع كبير يسدونه للفن المذكور، وهناك من ذهب على العكس، وحارب كل دخيل في نظره لا يمت بصلة إلى فئة الحرفيين والبسطاء بصفة عامة، وتناسوا جميعا أن قوة فن الملحون ترجع فقط إلى مخزونه الفكري والفني والإبداعي القوي بغض النظر عن الانتماءات الفئوية، بالإضافة إلى أن شعراء الملحون والمهتمين به على مر العصور لم يكونوا من فصيل مجتمعي معين، وإنما كانوا خلطاء من كل روافد الشعب : فقهاء، علماء، أمراء، ملوك، وزراء، مثقفين، صناع وحرفيين…… واللائحة طويلة ومتنوعة تشمل كل شرائح المجتمع، وحدتهم الحاسة الفنية المتيقظة اتجاه شعر الملحون من ناحية الذوق والإعجاب والإندهاش .
ولنا نماذج شاهدة على الإبداع والاهتمام من مختلف العصور أمثال الملك المغربي مولاي حفيظ رحمه الله وقد كان شاعرا مجيدا، وبين أيدينا اليوم ديوان خاص به، طبعته أكاديمية المملكة في سفر كبير، والأستاذ عباس الجراري الأكاديمي البارز، والأستاذ محمد الفاسي وهو من وزراء المغرب المثقفين ثقافة عربية وغربية متينة، يحكي عن نفسه في معلمته أنه سُحر بفن الملحون صدفة، فقد كان طالبا في باريس سنوات العشرينات من القرن العشرين، وتصادف وجوده مع إرسال باشا مراكش الكلاوي لأبنائه إلى فرنسا مصحوبين بفقيه مولع بفن الملحون نظما وإنشادا يدعى بلحسن، وقد كان طلبة المغرب يجتمعون فيما بينهم في لقاءات ودية وثقافية استغلها الفقيه المذكور للتعريف بالفن المذكور في وسطهم، فمن النتائج الإيجابية والمباشرة المحققة تعلق محمد الفاسي رحمه الله بالملحون كما تعلق بالثقافة والفكر الفرنسيين وهو المغربي الفاسي الذي ينتمي إلى عائلة عريقة، هذا الانبهار الجديد والقوي جعله عندما كان وزيرا للثقافة يقيم أكبر لقاء لشعر الملحون في بداية السبعينات بمدينة مراكش .
إِذِا لا خوف على شعر الملحون في كل الأوساط المجتمعية، فهو قادر بذاته ومضامينه أن يؤثر ويخلب الألباب، والدور الذي يجب أن يقوم به عشاقه وعارفوه هو المزيد من الشرح والتحليل والتعريف بطرق العلم، ووسائل الاتصال المختلفة حتى نوفيه حقه الإبداعي والفني، ونصل به إلى مرتبة عالية من الاحترام والتقدير والاعتبار تناسب سموه الفكري واللغوي العام ليس في الوسط المغربي فقط وإنما في جميع مجالات التربية والثقافة والمعارف الإنسانية العربية والعالمية .
د مولاي على الخاميري / الجديدة.