مصطفى المنوزي
من الناحية المبدئية لا يسع المناضلين الشرفاء الأوفياء للقضية الفلسطينية ، ليس من باب التعاطف القومي فقط وليس أساسا من باب مناهضة قوى الإستعمارالإسرائيلي وحلفائه الامبرياليين ، لا يسعهم إلا أن يدعموا كافة أشكال المقاومات التحررية ، ولهذا لا مناص من تأييد حركة حماس كحركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولابد أن ننتقدها مع وضع النقد في سياق الظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الحصار والعدوان ، وليس مراعاة لمشاعر البعض بدعوى أنها تحظى بشعبية لدى جزء كبير من الفلسطينيين والغرب بسبب مواقفها ضد الاحتلال. ؛ ولكن حركة حماس، مثل أي حركة سياسية أو عسكرية، ليست منزهة عن النقد ؛ فهي تخضع لتقييمات مختلفة بناءً على وجهات النظر السياسية والأخلاقية والقانونية. فهناك من داخل حركة المقاومة الفلسطينية الوطنية من يتهمها ، من زاوية حقوقية ، باستخدام تكتيكات تؤدي إلى خسائر مدنية، مثل إطلاق مبادرات فردية دون تشاور أو إشعار ( أو كما تطلق الصواريخ من مناطق سكنية، مما يعرض المدنيين للخطر) . ومن زاوية الموقف السياسي يرى منتقدوها أن خطابها المتشدد قد يعيق عملية السلام أو الحلول السياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، وهذه وجهة نظر ينبغي أن تؤخد بعين الإعتبار ، خاصة إذا أضيفت بعض الانتقادات حول كيفية إدارتها لقطاع غزة، بما في ذلك تقييد هامش الحريات الداخلية أو التعامل مع المعارضين. بل إن السلطة الفلسطينية نفسها تتهمها البعض بتعقيد العلاقات الفلسطينية مع بعض الدول بسبب تحالفاتها أو خلافاتها مع أنظمة عربية او غيرها . غير أن معضلة الشرعية الشعبية لدى حماس تناقضها الفعالية التي تعوزها ، فهي تحظى بشعبية بسبب مقاومتها، لكنها قد تفتقر إلى الرؤية السياسية القادرة على تحقيق الاستقلال ، ناهيك عن عنصر السياق الإقليمي المتغير ، تفرض تحالفات موضوعية واضطرارية على حماس ، خاصة مع إيران أو تركيا قد تخدمها تكتيكيًا، لكنها قد تعزز سردية “الإرهاب” في الغرب، مما يضر بالقضية فلسطينيًا.
لذلك لا توجد حركة سياسية أو عسكرية معصومة من الخطأ، والنقد البناء ضروري لأي كيان يسعى لتحقيق أهدافه. لكن يجب أن يكون النقد موضوعياً وعادلاً، مع مراعاة السياق التاريخي والسياسي الذي تعمل فيه حماس وغيرها من الحركات والفصائل التي تقاوم بمقاربة وتمثلات عقائدية ومذهبية ؛ وإن حركة حماس جزء من مشهد فلسطيني متشابك مع صراعات داخلية (مثل انقسامها مع السلطة الفلسطينية) وخارجية (مثل تحالفاتها الإقليمية) . وإن بعض مواقفها قد تزيد عزلتها الدولية أو تُستخدم ذريعةً من قبل إسرائيل لتصعيد العدوان، مما يستدعي تقييمًا عقلانيًا وهادئا لاستراتيجياتها.
ولأن الخطأ لا يصلحه الخطأ فلا يمكن مطلقا القبول بأن ينتقد النقد بتخوين أو تكفير صاحبه بنفس الوسيلة . إن القضية الفلسطينية تحتاج إلى وحدة وطنية تقوم على التعددية واحترام الرأي الآخر، مع الحفاظ على الثوابت المشتركة مثل مقاومة الاحتلال ورفض التطبيع. وبذلك فالنقد الموضوعي لحماس (أو فتح أو أي فصيل) ليس خيانة، بل مسؤولية لضمان أن تكون المقاومة فعّالة ومحققة لأهداف الشعب الفلسطيني دون إضرار بمصالحه. النقد لا ينفي الشرعية النضالية، لكنه يسلط الضوء على أخطاء قد تُضعف القضية أو تُسبب معاناة إضافية للفلسطينيين (مثل التكتيكات العسكرية التي تعرض المدنيين للخطر، أو القمع الداخلي في غزة). من هنا يصير من الضروري فصل النقد عن التخوين أو التسويغ الأعمى، لأن النقد البناء يساهم في تطوير أداء أي حركة تحررية.
وإذا كان لابد من تقديس فينبغي أن يهم التقديس مقومات العدالة للقضية الفلسطينية والتي لا يتصور تحقيقها إلا بموازنة بين شرعية المقاومة النضالية (ضد الاحتلال) مقرونة بالمساءلة الأخلاقية ضد الانتهاكات الداخلية أو الأخطاء الاستراتيجية مع إستحضار الحكمة السياسية (لتفادي استغلال الأخطاء في تشويه القضية) بعيدا عن تضخم الخطاب الأخلاقي وتقديس المشاعر على حساب الكلفة .
إنها إشكالية كبيرة تنتعش خطورتها وسلبياتها بين ثنايا التردد القاتل الذي يعتور حالة التماهي مطلب التحرير مع مطلب المقاومة ، وبينهما ترقص فكرة التطبيع القسري على خبل غسيل التسوية المهدرجة بالمساومة .
فهل من تفكير جدي ونقدي توقعي من أجل بلورة رؤية متوازنة ودقيقة لموقف جد معقد، حيث يجمع بين تأييد مبدأ المقاومة المشروعة ضد الاحتلال من ناحية، وضرورة النقد البناء لحركة حماس (أو أي حركة مقاومة مماثلة ) من ناحية أخرى. هذا التوازن ضروري لفهم ديناميكيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعيدًا عن التبسيط أو الانحياز الأعمى. لذلك وجب الإصرار على أن النقد الوطني الأمين هو أعلى درجات الولاء للقضية. لكن التطبيق العملي لهذا المبدأ يبقى تحديًا في واقعٍ فلسطيني مُجزّأ واحتلالٍ إنتهازي يستغل كل زلة أو إنفلات .