إدريس الأندلسي
رأيت الكثير من المسؤولين يتوددون” بصدق” لترانبرانسي المغرب حين يتكلمون خلال ندواتها ،أو خلال ندوات تتعلق بموضوع الرشوة، و هذا يحسب لهم . يفرحون كثيرا حين يتم إدخال بعض التحسينات على مرسوم الصفقات العمومية، و يزدهون بالمبادئ التي بني عليها القانون التنظيمي للمالية. و الأمر المهم هو تقوية ترسانة قانونية و الباقي مجرد تفاصيل. و حين يتم الكلام عن الاغتناء غير المشروع يتكلمون عن إصلاح مرسوم الصفقات، يرون أن الطعن في كل ما يتعلق بأرقام الرشوة و كيف ينظر إليها المواطن واجب سياسي. و أصبح الكلام عن إدخال هذا الاغتناء للقانون الجنائي غير ضروري. تطورت هذه القضية خلال السنوات الأخيرة حين قيل أن ترتيب المغرب يوجد في اسفل لائحة الدول فقرروا التنديد المسؤول بكل خطاب أو عمل هدفه تبخيس حصيلة حكومية بدعم من عناصر خارجية. و حين طفح الكيل بالحكومة التي يقودها من رفع بوعي شعار ” إعادة الترابي ” ، عملت بجد و صرامة على إزاحة البشير الراشدي رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة و الوقاية من الرشوة. و صمد الحزب الأول و أنسحب فريق التجمع الوطني للأحرار من جلسة برلمانية احتجاجا على ظلم غير مبرر. و هكذا تمت مواجهة من يقولون أن ذلك التقرير المشؤوم فيه “رصد موضوعي و علمي لمرض الرشوة الذي ينخر اقتصادنا و مشاريعنا و يعطل مستوى النمو” . و جاءت أمطار الخير لتؤكد حسن النوايا و لتدحض من يريد أن يشوش على نجاح مستمر للحكومة يستمر لكي تبهر المغاربة و العالم بتنظيم كاس العالم و كأس أفريقيا و كل الكؤوس إلى ما بعد سنة 2030.
يتم الترويج كثيرا لاتساع رقعة الرشوة ببلادنا ، يفرح المشوشون و لا يخفون ابتهاجهم بالوصول إلى هدفهم مثلهم مثل كثير ممن يسمون أنفسهم ” بالحقوقيين”. لكن الحكومة و أغلبيتها تقف لهم بالمرصاد. و غدا سيصبح كل تقرير يشوش على عمل الحكومة سببا للهجوم على من يسيرون مؤسسات الحكامة. لن يتم استثناء هيئة من هذه الهيئات سواء تعلق الأمر بالمنافسة، أو حقوق الإنسان ،أو القضايا الإقتصادية و الإجتماعية و البيئية ، أو الوساطة أو الإحصائيات حول التضخم و البطالة أو السياسة النقدية. و لقد بدأت تحليلات الصحافة تبين أن التقارير التي ستصدرها مؤسسات الحكامة ستعرف كثيرا من التفهم لجهود الحكومة و إنصاف جميع مكوناتها.
و لأن ” الحق يعلو و لا يعلى عليه” و بعد تفكير لا قدرة لي على وصفه بالعميق ، تبين لي أن الكثير من محاربي الرشوة و الفساد لم يتمعنوا جيدا في سلم أولويات الحكومة ذات الامتدادات العضوية في التجارة و الصناعة و الفلاحة و الأبناك و شركات التأمين و الطاقات و المياه. كان عليهم أن يتركوا هذا الفريق الحكومي يشتغل في هدوء، و أن يمتنعوا عن إصدار التقارير و الأرقام المرعبة لغاية إنتهاء عمر الحكومة الدستوري . الحكومة تبني ملاعب كرة القدم و السدود و الطرق و لا يجب أن تضيع وقتها في خوض معركة ضد من راكم أموالا ، و ساند حملات انتخابية ، و نظم موائد الرحمان، و ضحى بوقته الثمين في اجتماعات طويلة بالجماعة و الجهة و البرلمان، ناهيك عن مطالب و حاجيات الحزب. أمام كل هذا الإلتزام، يتم تخويف ” المنخرطين في السياسة ” ببعبع المحاسبة، و يشهر في وجههم سيف الشكايات أمام القضاء. و هذا ما يدفعهم لهجران السياسة تفاديا ” لصداع الرأس “. و لقد كان وزير العدل، عبد اللطيف وهبي على صواب حين تصدى بقوة للجمعيات التي لا تترك المسؤول السياسي في حاله لينال في الدنيا حسنة دون حسد من أناس ينصبون أنفسهم مدافعين عن المال العام.
يجب أن تعبر الحكومة و أغلبيتها عن حبور جياش بعد إنزال البشير الراشدي من كرسي رئاسة هيئة الوقاية من الرشوة . لقد كان تقريره الأخير مرعبا و مخيفا للكثيرين من أصحاب النيات الحسنة، وكذلك الذين أنعمت عليهم السماء عليهم بالخيرات بعيدا عن ممارستهم لمهامهم السياسية. خاف العديد منهم من تكلفة 50 مليار درهم التي قيل أنها مرتبطة بالرشوة. خافوا إن تقرر فرض ارجاعها عليهم. و تبين ، و الحمد لله ، أن هذا الرقم هو مجرد مؤشر قيل أنه يستخرج ” علميا ” حسب منهجية دولية متعارف و متفق عليها. و هكذا ظهر الحق و زهق ذلك الباطل الذي يراد به محاسبة الناس على املاكهم التي يشهد عليها عرق جبينهم الغزير. يجب أن تستمر الحكومة في طمأنة المنتسبين إلى مكوناتها ليستعيدوا الرغبة في المشاركة في الانتخابات، و تسيير المجالس الترابية. و يجب أن تدعمهم و تحميهم عبر الحد من تدخل تلك الجمعيات التي تدعي أن رسالة اتتها من السماء لمحاربة فساد لا يوجد إلا في عقول مسيريها. و سيرون أن مشروع قانون المسطرة الجنائية سيضعهم على الهامش ، و يسد الطريق أمامهم للوصول إلى القضاء ، و الحط من معنويات المسؤولين الذين يبدلون جهدا جهيدا لخدمة المواطن، و يضحون في سبيل ذلك بالغالي و النفيس. و أجرهم عند خالقهم إن شاء الله. أما من اخطؤوا، دون نية مبيتة ،و حكم عليهم بالسجن ، فإنهم سيرجعون لأنهم يؤمنون بقدرهم و ما كتب عليهم. و يجب أن تجند أحزاب الحكومة مجموعة من مناضليها للدعاء ليل نهار لكي يلهم الله كل مسؤول جديد قناعة لا تفنى و رزقا حسنا يزيد في كل وقت و حين.
ملحوظة مهمة
و أجد نفسي، في الأخير، مضطرا للاعتراف بأني ” قلبت الفيستا” و قررت عدم السباحة ضد التيار. بدأ الشك يسكنني في قدرة المجتمع المدني على التصدي لهجوم الحكومة على حق المواطن المشاركة في تدبير الشأن العام عبر الديمقراطية التشاركية. و زاد هذا الشك حين أصبح الهجوم على مؤسسات الحكامة مجالا تصول فيه الأغلبية الحكومية و تجول. و وجب التأكيد على أن الضغط على القوة الشرائية و التضييق على الولوج إلى المرافق العمومية يستمر في رفع مستوى و حجم الهشاشة لدى فئات كثيرة.