آخر الأخبار

لمراكش رجاله

عبد العزيز الحوري

ذِكْرٌ للاستاذ عبد الله الشليح و الاستاذ عبد الرحمان بنفضيل رحمهما الله، و الصديق مومن موقت أطال الله في عمره في الخير و المحبة و انا اتصفح بعض الصور و اتذكر بعض المحطات من حياتي لفت انتباهي صور لثلاثة من رجال مراكش الذين عشت معهم تجارب من بينها تجربة اكدت لي، و إن كنت لا احتاج الى ذلك، نبل اخلاقهم و عمق وطنيتهم و حبهم المتجذر بالحاضرة المراكشية و تاريخها بكل مكوناته و حرصهم على حاضرها و مستقبلها.

و بهذه المناسبة اروي واقهعة لعبت فيه هذه الشخصيات الثلاث دورا كبيرا للتعريف بمدينة مراكش و تاريخها الأدبي و المعماري و الفني… بدون قصد أو مَنٍّ او رياء.

كنت رئيسا لجمعية نادي الثقافة بمراكش، و هي الجمعية التي تأسست في أواخر السبعينات و اول الثمانينيات ( 1980/1979 ميلادي 1400هجري)، و كانت تنظم في شهر مارس من كل عام: تظاهرة ثقافية ضخمة كانت تغطي العديد من مجالات الثقافة و الفن: الندوات و المحاضرات و العروض السينمائية و المسرحية و الفن التشكيلي و معرض الكتاب و الفن الشعبي… تحت عنوان ” ربيع مراكش الثقافي” ( و بالمناسبة، فإن شاعرنا الكبير الاستاذ محمد بنيس هو صاحب تسمية التظاهرة ب”ربيع مراكش الثقافي” و كان معه الاستاذ سبيلا) و التي حضرها و شارك فيها نخبة، إن لم أقل، جل مثقفي المغرب، سواء كمحاضرين أو متابعين، و الذين اتخذوا من مراكش وجهتهم و ملتقاهم في العطلة الربيعية من كل عام قبل أن تتدخل ضروف قاهرة لإطفاء هذا الشعاع الثقافي الذي استفاد منه العديد من الطلبة و الباحثين و المهتمين الذي اتيحت لهم الفرصة بالالتقاء مباشرة مع ” رواد العقل و الفكر و شعب الادب و الثقافة المغربية و محاورتهم أثناء العروض أو خارجها. لأن هذا كان هو هدف التظاهرة الموازي.

فبمناسبة تنظيم ندوة عالمية بجامعة محمد الخامس بالرباط تحت عنوان ” الإصلاح و المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر” ما بين 20 و 23 أبريل 1983 شارك فيها، إلى جانب نخبة من الأساتذة و الباحثين المغاربة، كوكبة من الأساتذة و الباحثين و المهتمين المرموقين من العالم. و نظرا لكون الجامعة، الذي كان يتضمن برنامجها زيارة مدينة فاس، باقتراح من احد الاساتذة الذي، نظرا لظروف خارجة عن ارادته، اعتذر في آخر ساعة، اتصل بي الاستاذ شحلان، و ناقش معي فكرة (بطريقة مراكشي مع أخيه المراكشي و الاستاذ مع طالبه/صديقه) امكانية نقل برنامج الرحلة الى مراكش حتى تبقى محطات الندوة سليمة.
و بدون أن افكر، و نظرا لمكانة الاستاذ شحلان عندي، و حتى لا يقع خلل في البرنامج العام، و يأخذ الضيوف نظرة، كيف ما كان نوعها على المغرب، وافقت على التو، فأُخبر بها الجمع الذي رحب و ابتهج.
استشعرتني، طريقة تقبل و ابتهاج الجمع بالخبر، بهول المسؤولية، و اصبحت احمل كل مراكش، بل صورة المغرب على عاتقي، فغادرت الندوة. و اتجهت إلى مراكش و أنا أفكر في تحضير برنامج متكامل يليق بمدينة مراكش و اهلها و تاريخها، خاصة و أن من بين المشاركين من هم من دول المغرب الكبير و المشرق و الغرب و حتى من امريكا. إذ كان علي تنظيم الاستقبال و الإيواء و التغذية وضع برنامج لزيارة المدينة و مآثرها دون اغفال حسن الضيافة و الفرجة و البهجة…( يعني: تقديم مراكش بكل ما تحمله من حمولات تاريخية و آنية!)
و بينما أنا كذلك! تمثل أمامي ثلاثة شخصيات، وطنيين و مناضلين و شرفاء، ايقنت انهم، نظرا لمعرفتي الوثيقة بشهامتهم و حبهم، فإنهم لن يخيبوا ظني بهم لانجاح العملية.
الرجال الثلاثة هم الاستاذ عبد الله الشليح محامي، و الاستاذ عبد الرحمان بنفضيل عضو المجلس الاعلى للقضاء آن ذاك، و السيد مومن موقت مدير مطار مراكش المنارة آن ذاك الذي اعرف نشاطه و حيويه و حبه للثقافة و الرياضة و فعل الخير في صمت.
مباشرة بعد دخولي إلى مراكش، اتصلت بالاستاذ عبد الله الشليح الذي لما عرضت عليه الفكرة اجابني، نظرا لمكانة الضيوف و صدمة المباغتة و ضيق الوقت، بقوله: ” أخويا، لفضولي بشكارتو”. و الوقت ضيق و الامر صعب. و هؤلاء ضيوف ليسوا بالشيء الهين…
لكن، و بعد أسراري و دفوعاتي التي بينت فيها ضروف و اجواء الاقتراح. و ما خلفه الخبر في نفوس المشاركين من فرح و خاصة الاجانب الذين منهم من يسمع بمراكش و لم يتح له الزمن زيارتها…إضافة إلى كرمه و حبه لمراكش و دفاعه عن تاريخها و ابراز غناها المعماري و الثقافي و التاريخي و التراتي… مع دأبه على تنظيم مثل هذه الضيافات و اقامته للتظاهرات و المهرجانات الجماهيرية… استطعت ان انجح في آخر المطاف حيث كنت على علم بأنه اهل لمثل هذا التحدي. و أن، فقط، صدمة المباغثة و عدد و قيمة الضيوف هي التي جعلته يمتنع في الأول خوفا من أن لا يكون الاستقبال في مستوى ما نرمي إليه، فاجابني رحمه الله بابتسامته المعهودة، و قال لي بالحرف الواحد: الله اعلم- انت مرضي الوالدين. و بما ان هدفك نبيل. فإن وقت تنظيم “النزاهة” التي تنظمها جمعية الملحون ( التي كان يرأسها) قد آن أوانه. و سأعمل المستحيل،( رغم ان اليوم كان يوم الاربعاء و الضيوف سينزلون الى مراكش مساء يوم السبت ) على تقديم تاريخها، و جعله يوافق يوم قدوم أعضاء الندوة و الضيوف.
الله! بعد ضمانِي وجبتَيْ الفطور و الغذاء ليوم الاحد، بقي لي الاستقبال و الإيواء و عشاء الضيوف ليوم السبت.
و أنا خارج من مكتب الاستاذ الشليح بالقنارية، التقيت، صدفة بالاستاذ عبد الرحمان بنفضيل آت من جامع الفناء و ذاهب الى رياض العائلة بدوار كراوة، و بعد عرض الفكرة/المشكلة أمامه بكل تفاصيلها، صمت قليلا، و سألني عن عدد الضيوف، ثم سكت مرة اخرى، ثم خاطبني هو الاخر بانني محظوظ جدا جدا جدا و اخبرني بان يوم مجيء الضيوف ( السبت) يصادف عرس ابنته في نفس الليلة. فطلب مني ان استدعى الجميع لحضور المناسبة باسمه. فقلت له رحمه الله: ممازحا: نسيتيني من لعراضة فقبضت فيك النية!
الله! ضمنت العشاء و الفرجة بعد وجبتي الفطور و الغذاء.
بقي لي الاستقبال و الإيواء.
في الصباح الباكر، صبحت على الصديق مومن موقت الذي اعرف علاقته الطيبة باصحاب الفنادق. و لما ابلغته بالفكرة و ضروفها، فاجأني باسم لم افكر فيه ابدا: الحاج عبد الرزاق عضو أمانة اتحادنا المغربي للشغل الذي كنت عضوا في كتابته المحلية بمراكش و احضر اللقاءات الوطنية… فاتصل به السيد مومن و اخبره بأن احد المناضلين بمراكش يريدك في امر لن يحله إلا انت.
الحقيقة انه، ما أن أخبرته بالفكرة و المناسبة و الورطة التي انا فيها بسبب مكانة الضيوف العلمية و الثقافية و ضروف انتقالهم من فاس الى مراكش حتى طلب مني انتظار هنيهة، اتصل بي بعدها و طلب مني الاتصال بالسيدة مديرة مركز اصطياف الكهربائيين بمراكش لاتمام الترتيبات و الاجراءات.
صاحبت السيد موقت الى مركز الايواء حيث وجدنا السيدة “غيبوتو” في انتظارنا. و بدون مقدمات، طلبت مني التاريخ و العدد، رغم أن المركز كان شبه ممتلئ.
في الواقع، كانت مساعدة الصديق عبد المومن موقت حاسمة في قضية الايواء، خاصة عندما رأته السيدة “غيبوتو” مديرة مركز الاسطياف التي ما ان اعطيتها العدد و التوقيت، حتى اخبرتنا بأنها ستقيم، على حسابها، حفل استقبال قبل توزيع الغرف.

تنفست الصعداء. و حمدت الله الذي لم يخيبني، و سهل كل الصعاب امامي، فأخبرت الاستاذ شحلان و أكدت له و للسيد الكاتب العام لجامعة محمد الخامس بالرباط استعداد ” نادي الثقافة” لاستقبال المشاركين في الندوة بمراكش، ثم استدعيت بعدها باقي أعضاء مكتب الجمعية، لأنني لم أخبر سوى امين المال و الكاتب العام و ذلك حتى لا أحرج الجميع في حالة الاخفاق الذي لم اورط اسم الجمعية إلا بعد نجاحي في جميع الخطوات، و كنت على استعداد لتحمل مسؤولية الاخفاق و نتائجه.

و فعلا، و في الوقت المحدد من مساء يوم السبت، توقفت حافلة جامعة محمد الخامس امام مقهى ” la Renaissance ” بحي جليز، و على مثنها ضيوف مراكش حيث تم استقبالهم من طرف اعضاء مكتب الجمعية، و توجهنا، جميعا، إلى مركز الإيواء حيث فاجأتنا السيدة المديرة باستقبال رائع، نظمته في الحديقة و على جنبات المسبح طاولات عليها الورود و الشموع و الحلويات و المشروبات المختلفة بينما طلبت من المشرفين امدادها بالاسماء لتوزيع الغرف.
انتظرت انا و اعضاء المكتب بعضا من الوقت، و بعد التحاق الجميع بغرفهم و وضع حقائبهم و امتعتهم، التقينا و توجهنا إلى رياض الاستاذ عبد الرحمان بنفضيل. فكانت المفاجأة الثانية، لأن أحدا لم يعرف بعد البرنامج.
كان استقبال الاستاذ عبد الرحمان بنفضيل استقالا مخزنيا/ مراكشيا/مغربيا رائعا، ترك انطباعا حسنا عند الاجانب و المغاربة على السواء. بعده وجهنا إلى الطابق الأعلى الذي هيأه خصيصا للضيوف الذين عاشوا أجواء العرس المغربي/ المراكشي و طقوسه قبل تناول وجبة العشاء التي كانت مناسبة للضيوف الاجانب للتعرف على الاطباق المغربية و نكهاتها و الفواكه و انواعها و الحلويات و الوانها و لا احدثكم عن كؤوس الشاي ب”رزاتها” …
كانت سهرة ممتعة فتح فيها حوار حول حسن الضيافة النغربية و أنواع المأكولات، و العرس و تقاليده و محطاته… بعد ذلك رافقت الضيوف إلى مركز الإيواء و حددت معهم موعد اللقاء على الساعة 9 صباحا. و أخبرت السيد الكاتب العام و المسؤول عن المركز بأن وجبة الفطور ستكون بمكان آخر. دون الإفصاح عنه.
و في اليوم التالي، و على الساعة التاسعة و النصف صباحا كنا مع المفاجأة الثالثة بجنان الحارثي حيث كان في الاستقبال الاستاذ الشليح و بعض الأساتذة و الضيوف، بعدها دخلنا الحديقة التي كانت بها مساحة مفروشة بالزرابي و الوسائد و القليل من الكراسي، و على الجنبات “مولات الحريرة”، و ” السفناج”، و ” صاحبات “المسمن و البغرير” و قدر كبير فيه ” الكرعين دالغنمي” و “الخبازة” مع ” ميدة دالخبز البلدي” من القمح و الشعير و اطباق من زيت الزيتون و الزبدة البلدية و العسل و ” لخليع” و في كل ركن “بابور” و “المقارج دالنحاس” و بجانب كل “صينية بعمارتها” واحد بامراكش ” مْعَكْرَطْ و “طاقيتو مْعَرّْقَة”. و لا أحدثك على الحاضرين من ” العزاوي” اولاد مراكش المتأصلين، اذكر منهم: بابا و قنديل و بابريك لقايمي و عدد كبير لم اتذكر اسماءهم، و أساتذة جامعيين و محامين موظفين و صناع تقليديين… كان داخل الفضاء صورة مصغرة، نسبيا، من ساكنة و مكونات مراكش.
في هذه الاجواء الرائعة تناول الحاضرون وجبة فطور، كل حسب شهيته و ما شتهى ذوقه. تلتها فترة حرة اقلتهم فيها الحافلة إلى أسواق المدينة العريقة، و كان برفقتهم خلالها استاذ جامعي تخصص تاريخ.
و بعد العودة، بعد منتصف النهار، كان موعد تناول وجبة الغذاء بكل طقوس النزاهة المراكشية: اي بدون بروتوكول بنكتها و ضحكها و “تقشابها” و الغازها…، انطلقت معها وصلة اندلسية، تبعتها قصائد الملحون و أنواع العيطة و ” التقيتيقات” و كان مسك الختام “الدقة المراكشية” مع غروب الشمس. و كان الاستاذ عبد الله الشليح يقدم للضيوف نبدة أو شروح عن كل قصيدة أو كل لون من الوان الفلكلور المقدم، الشيء الذي اضفى على الحفل جوا ثقافيا رائعا فتح شهية الحاضرين الى مناقشات و حوارات ثقافية و فكرية وعد بعضهم على تعميق البحث فيها من بعد.

لقد قضى الوفد في مراكش ليلة و نهارا ترك في نفوسهم، حسب تصريحاتهم جميعا، آثارا لن ينسوه تلقيت بعده رسالة شكر من السيد العميد و السيد الكاتب العام. و اتصالا هاتفيا حيث عبر لي السيد العميد عن اسفه عن عدم حضوره، و أكدت له بانني ما كان دوري سوى اختياري لرجال من بين رجالات مراكش الكرماء الذين حاولوا قدر الإمكان إتمام البرنامج الأصلي بتغيير عاصمة علمية بعاصمة الإمبراطورية المغربية، من جهة. و إعطاء صورة حقيقية عن كرم و حسن ضيافة المغاربة مع إضافة النكهة المراكشية الخاصة.

فرحم الله الاستاذ الجليل الغيور على مدينته مراكش و ثراتها الاستاذ عبد الله الشليح و الاستاذ عبد الرحمان بنفضيل و أطال الله عمر الصديق الجميل السيد مومن مؤقت: جندي الخفاء و صاحب المهمات الصعبة و الذي تجده في جنبك عند الحاجة.