الحسن ادكروم
لن نتناول في هذه المقالة بالتحليل المعمق آليات وأبعاد الاختراق التاريخي الذي حققته الدبلوماسية المغربية بفضل القيادة والتوجيه المباشر لجلالة الملك محمد السادس ، والمتمثل في الاعتراف الرسمي السياسي والقانوني للولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية الجنوبية ،بل سنكتفي في مدخلها بالإشارة بعجالة إلى المكتسبات المرتبطة بهذا الاعتراف :
* إقرار أقوى واهم دولة على الصعيد العالمي ، بسيادة المغرب على كامل ترابه في أقاليمه الصحراوية بالجنوب المغربي ، وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة للمغرب ، في الظرفية السياسية والجيوبوليتكية الحالية … وله مستتبعات ذات أهمية بالغة في هذا الصدد .
* ارتباطه بعزم أمريكا على فتح قنصلية لها في مدينة الداخلة ، وارتباط ذلك بالتزام بتحقيق استثمارات اقتصادية هائلة ، وما يعنيه ذلك من إقرار الحضور العيني للدولة الأمريكية في منطقة ذات حساسية بالغة بالنسبة للمنطقة .
* الإقرار رسميا من طرف أمريكا بان مقترح الحكم الذاتي المغربي يبقى القاعدة الوحيدة لأجل حل النزاع حول الأقاليم الصحراوية من طرف الأمم المتحدة – ومجلس الأمن هذا الأخير الذي تضطلع أمريكا بدور أساسي منه خصوصا ما يتعلق بقضية الصحراء .
* التصريح في نفس السياق من طرف أمريكا بأنها عاقدة العزم على عقد اتفاقيات وتعميق القائم منها على جميع المستويات اقتصادية وعسكرية وأمنية وغيرها .
تلك بإجمال أهم مرتكزات الموقف الأمريكي في صحرائنا وهي انجازات دبلوماسية سياسية واقتصادية هائلة بكل المقاييس ، لكن ما سنركز عليه في هذه المقالة هو دلالة ارتباطها وأبعاده (على المغرب دولة وشعبا ) بمسألة التطبيع مع دولة إسرائيل ،هذا الأمر الذي اثأر ردود أفعال حذرة ومترددة وأحيانا متوجسة عند بعض الجهات داخل المغرب وخارجه ،ويهمنا هنا تلك التي تنطلق في الأمر، عن حسن نية ولا تهمنا المواقف الكيدية والتخريبية المحكومة بنزعة تآمرية تدميرية.
1- مسألة التطبيع مسألة سياسية وليست مبدئية .
المبدأ الأساسي في التشبث بثوابت القضية الفلسطينية تتمثل في الدفاع حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أراضيه ،وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ،وذلك بواسطة الطرق السلمية والعمل على حشد كل المساعدة لتحقيق ذلك.
لقد قامت إسرائيل على أساس اغتصاب أراضي وحقوق الفلسطينيين ،وتمادت أكثر بعدم التزامها باحترام حقوق الشعب الفلسطيني وارتكاب كل أنواع الجرائم إزاءه ، ابتدأ من عدم التزامها بمقترحات اتفاق أسلو 1993، وكذا عرقلتها بمختلف الوسائل لقيام دولته المستقلة.
لقد لجأت أغلبية الدول الإسلامية إما لعدم الاعتراف أو مقاطعة إسرائيل (باستثناء تركيا التي ضلت دائما في علاقات عادية مع إسرائيل )،وذلك لإحكام عزلتها وحصارها لإسرائيل كموقف سياسي /دبلوماسي ذي أبعاد اقتصادية – اجتماعية – ثقافية ، من اجل الضغط عليها بغاية دعم مقاومة الشعب الفلسطيني ونضاله حتى يحقق أهدافه .
وضمن هذا السياق وقعت حروب ونضالات اتخذت مختلف الوسائل من طرف شعوب الدول العربية … وحدثت العديد من التغيرات في الواقع ، والتصورات والخطط والشعارات … عقود من الزمن .. لم يتحقق منها ما هو جوهري من مطالب الشعب الفلسطيني ، بل ما وقع هو تقهقر وتراجع سواء فيما يخص وحدة الشعب الفلسطيني ، أو ما يتعلق بوحدة الصف العربي … بل حدثت انتكاسات كبيرة على مستوى دول كان لها دائما أدوارا أساسية في الصراع العربي الإسرائيلي : سوريا /العراق … واستعرت تناقضات عدائية مدمرة بين بعضها .
هذا هو الإطار الذي من خلاله يجب أن ننظر إلى الموقف المغربي من القضية الفلسطينية .
من جهة أخرى فالمغرب يعيش ظروفه الخاصة ،والمتمثلة في تركيزه على التصدي لقضايا الوحدة الترابية وتحقيق التنمية وتعميق الديمقراطية … وهي أمور متداخلة ومتعالقة ببعضها ، وتقف في وجه تحقيقها عدة تحديات ومطامع داخلية وخارجية ، وتنفتح على مختلف الاحتمالات منها ما يمس حتى وجوده ككيان .
فكيف لقوة بلد منهارة ومتأزمة افتراضا ،و تهددها مطامع وتحديات وجودية ، أن يكون بمستطاعها أن تقدم مختلف أنواع الدعم المتطلب لشعب عزيز وتعتبر قضيته “من درجة ألأهمية التي لقضية الوحدة الترابية المغربية ” كما عبر عن ذلك جلالة الملك محمد السادس في مكالمته للسيد محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ؟
حتى يمكن للشعب المغربي تحت القيادة السامية لملكه أن يرفع من مستوى وقيمة دعمه للقضية الفلسطينية كان لابد أن يعمق تحقيق وحدته وازدهاره ….أي أن يكون المغرب في مستوى معين من القوة والتماسك .
وفي لحظة حاسمة ارتبط ذلك كله بإرهاصات تحولات جيوبوليتكية عالمية وقارية وإقليمية ،وكان عليه أن يتعامل معها بحنكة سياسية ودبلوماسية حاسمة ، جعلته من جهة يضمن مكاسب لوحدته وتنميته وتضمن في نفس الآن مداخل جديدة للفعل والتأثير الايجابي على صعيد ضمان مصالح الشعب الفلسطيني
2 – التطبيع اختيار ومدخل سياسي لدعم القضية الفلسطينية .
هل حققت مقاطعة إسرائيل نتائج فعلية فيما يتعلق بحياة الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة في حدود تقسيم سنة 1967 بعاصمتها القدس ؟ (نترك لمن شاء أن يقيم مجريات الأمور لعقود من الزمن )
يجب فتح نقاش واسع : حول ما إذا كانت المقاطعة هي الأسلوب الناجع والفعال لإعطاء النتائج المتوخاة فيما يخص دعم نضال الشعب الفلسطيني نحو تحقيق أهدافه التحررية .
وماذا لو كان ، الدفع نحو تطبيع البلدان الإسلامية وضمنها العربية مع الكيان الإسرائيلي هو الأجدى والأفيد؟
الم تستفد قوى اليمين العنصرية من إسرائيل دائما في تخويف الشعب الإسرائيلي ، من الدول والشعوب المحيطة به ، من اجل منع أي علاقة إنسانية ثقافية واقتصادية و… قد ينشأ عنها استقطابات وتفاهمات فكرية وسياسية تؤدي إلى تقارب وتساكن ينشأ عنها سلام حقيقي من خلاله يمكن تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني ،التي لا نقبل حصرها في مشروع قيام دولتين بل ولماذا إقصاء اختيار أهم وهو اختيار دولة مدنية يتساكن فيها الجميع وتكون عاصمتها القدس ذات الأهمية القصوى بالنسبة لكل الديانات السماوية ، أي لشعبي المنطقة .
وفي هذا الصدد يجب أن لا ننسى – عن قصد أو غير قصد – أن هناك تيارات ومواقف متنوعة داخل الشعب الإسرائيلي … فهو ليس كيان واحد متجانس على مستوى الرؤية والخيارات والمواقف كغيره من الشعوب الأخرى ، انه يتضمن قوى متعددة تتراوح ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار إلى جانب ألوان طيف الوسط المعددة … وفيه قوى أبانت باستمرار عن رفضها لسياسة قمع الدولة ورفضها لمطالب الفلسطينيين … الرفض العملي القوي …عن طريق التظاهر والاحتجاج والإضراب … وأحيانا الانتفاض والحملات السياسة والإعلامية المنظمة من خلال مختلف المؤسسات …
إن مختلف الأوضاع الدولية والإقليمية تدفع نحو بروز استقواء اتجاهات السلام والروح الإنسانية داخل الشعب الإسرائيلي الذي تطور وعيه عميقا بأصول اللعبة السياسية والتضليل الذي راح ضحيته لعقود
وهكذا ومن شأن المساهمة في كسر طوق الحصار ، حول أغلبية الشعب الإسرائيلي التي تعاني يوميا … الدخول معه في علاقات مباشرة ،ومع مثقفيه ، ونخبه كافة من شأن ذلك وغيره تحقيق مفعول أهم من المقاطعة …
هنا يأتي دور المغرب ومختلف تيارات نخبه، فنسبة المغاربة اليهود ، المقيمين في إسرائيل مهمة جدا والتفاعل الايجابي معها من شأنه أن يوثر كثيرا على اختيارات الدولة الإسرائيلية قريبا …
ومن شأن تعميق التفاعل الاقتصادي /الاجتماعي /الثقافي الهادف مع المغاربة اليهود ينشأ واقعا جديدا يمكن من تبلور أدوات تأثير أعمق على سياسة الدولة الإسرائيلية في القريب العاجل …
أما موقف التشبث بالمقاطعة وعدم التطبيع الذي كانت له فعالية في فترة زمنية معينة ، في نظري ، فقد تجووز ، فهو يترجم حاليا نزعة عجز وهروب عن مواجهة الواقع ، وبتعبير أخر التعامل مع واقع جديد ب “برادغم قديم ” و”ابيستيمي غير ملائم ومتجاوز ” ، ويعني هذا أن العقل السياسي – الثقافي المغربي والعربي والإسلامي عامة مطلوب منه التعامل باليات فكرية وسياسية جديدة لاستيعاب والتفاعل مع مستجدات الواقع الجديد ، واقع الثورة العلمية /الإعلامية ،الرقمية ، وأثرها على الذهنية والفعل الإنساني في كل المجالات …
وان ما ننتقده عن تكلس وتحجر أفق وتصورات النخب القائدة للدولة في الجزائر وعجزها عن مجاراة متطلبات العصر ومستجدات الساحة الدولية والإقليمية ، وخصوصا حول قضية وحدتنا الترابية هو ما يعانيه مع الأسف جزء من النخبة السياسية المغربية في مضمار أسلوب نصرة القضية الفلسطينية ، وما يعتوره من قصور وتجاوز .
لقد كان في وقت ما موقف المقاطعة ورفض التطبيع العربي مع إسرائيل ينبني على حيثيات مقبولة ، تدفع إلى إحكام طوق الحصار على الكيان الإسرائيلي ، لإرغامه على الاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني …
أما ألان فان ما يتضح انه يمكن أن يحقق الهدف ، هو الانفتاح على الكيان الإسرائيلي واستيعابه من موقع وخلفيات ايجابية تستهدف الوصول إلى تفاهمات تؤسس لمخرج سلمي ، يكون هدفه أساسا لتحقيق هدف بناء دولة مدنية تستوعب الجميع ، وتحافظ على دولة فلسطين ديمقراطية موحدة ، عاصمتها مدينة القدس ، التي يجد فيها الجميع الاحترام الواجب لمعتقداته وتراثه الروحي … أو على الأقل هدف حل الدولتين المتعايشتين على قدم المساواة ، مع صيانة الطابع الروحي المشترك للشعبين بالصيغة التي ترضي الجميع …
وفي هذا الإطار أدعو النخبة المغربية بمختلف فئاتها ، وكل مكوناتها وتياراتها الرسمية والحزبية والشعبية إلى المساهمة في خلق نقاش محوري وجاد حول هذا الموضوع .