عبد الرحيم كلموني
أسدل الستار مؤخرا عن المرحلة الأولى من امتحانات الباكالوريا 2021. امتحانات، استحقاق، مهرجان، كرنفال… كل يسمي العملية بما يراه مناسبا. واحتفل الناجحون والناجحات وإن كان البعض أحرز نجاحا بطعم الرسوب. في الماضي كان الحصول على الباكالوريا أصعب وكانت نسب النجاح متواضعة ثم سرعان ما طفقت في التسلق رغم أن التعلمات في الماضي كانت أحسن بفضل العصامية وقلة الملاهي وعوامل أخرى كثيرة… حتى أضحى من السهل والملائم تماما القول بأنه كلما تردى المستوى وتفاقمت الأزمة التعليمية ارتفعت نسب النجاح وارتفعت معها المعدلات بشكل فاحش وغريب. صار الباك باكاتٍ شتى. فكما كان في الماضي الحصول على الجواز أمرا أشبه بالمستحيل لأنه كان عصى سحرية تحل الكثير من المشاكل ، ثم صار- في ما بعد- يسيرا في متناول اليد ولكنه “حَدُّو طنجة” -كما كان يقال- حين تحصنت دول أوروبا بالتأشيرات والتعقيدات، ها هي ذي شهادة الباك التي ابتذلت وصار يحصل عليها أغلب المترشحين بتفاوت مُريب بين “المستويات” التي تعكسها النقط المحصل عليها والتي تحدد منذ البدء المسارات المتاحة أمام التلاميذ ما بين مدارس وكليات “نبيلة” شبه محجوزة “للورثة” وكليات مفتوحة للتلاميذ “المتخلى عنهم”. الجواز “حدو طنجة” في مقابل الباك “حدو الكلية أو التكوين المهني”. هكذا ترتسم بعنف وقوة الخريطة التعليمية والدراسية في منظومة تزعم المساواة وتكافؤ الفرص. أسوء المنظومات التعليمية في العالم هي المنظومات التي تعاني تضخم التقويم حيث النتيجة أهم من السيرورة والنقطة أهم من التعلم والتفوق في الامتحان أهم من التربية. تتحول المدرسة إلى حلبة سباق قاسية يشارك فيها “متسابقون” متفاوتو اللياقة البدنية ومستوى التدريب واستعمال كل أشكال المنشطات المباح منها وغير المباح، كما أن القانون فيها لا مبال أحيانا، ومتحيز أحيانا أخرى، وإمكانية الغش فيه ثابتة الورود بتواطؤ من أجهزة التحكيم نفسها. هذه الصورة ليست استعارة كاريكاتورية بل واقعا عصيا على الفهم وعلى الإصلاح. لا يقف التنافس بين التلاميذ بل تحتد حمى التنافس كذلك بين المؤسسات والمديريات والأكاديميات كل يريد تحقيق السبق والتفوق بنسب تقترب شيئا فشيئا نحو العلامة الكاملة تفاديا لِلِجَان التقصي التي سنتها مذكرات غير مسؤولة وغير مفهومة. في نظام تعليمي كهذا لا شيء يهم سوى النقط والإحصائيات والمنحنيات المتسابقة نحو عنان السماء… أما ما ينبغي أن يتعلمه التلاميذ داخل الفصول الدراسية من معارف ومهارات ومواقف وقيم فلا قيمة له لأنه لا يندرج ضمن التقويم. ما لا يقوم لا قيمة له ولا أحد ينتبه إليه. وقيمة المواد التعليمية محددة سلفا في بورصة التقويم بواسطة المعاملات التي تحدد على أساسها أسعار الدروس الخصوصية للقادرين عليها. أما المقاربات البيداغوجية فلا قيمة لها خارج النصوص الرسمية الطنانة وهي تتغزل بالقيم وبالتربية. تدعي هذه النصوص اعتماد المقاربة بالكفايات (…). لكن ذلك، وداخل هذا النوع من التعليم، يعد أكبر خرافة إذ يتم التقويم على أساس عينات من المحتوى التي يتم تكييفها وتخفيفها إلى حد ينزع عنها التركيبية عصب كل مقاربة بالكفايات فيحولها إلى شبكات إجابة مسكوكة وثابتة قابلة للتعبئة… يتم باطراد تخفيض عارضة القفز لمسايرة تدني التعلمات ومواراة أعطاب مدرسة منكوبة. نحن أمام ظهور أجيال جديدة من الوسائل التكنولوجية عصية على المراقبة والضبط وأمام رسوخ آفة الغش بتواطؤ من الجميع ولو بالصمت ووجود هدر مدرسي مزمن لا أحد ينتبه إليه وهو الهدر الداخلي décrochage de l’intérieur لجحافل من التلاميذ الذين خلاف الهدر الخارجي أو الانقطاع الدراسي يظلون داخل الفصول الدراسية ولكنهم منقطعون عن التعلم تماما وراغبون عنه، يأتون إلى الفصول الدراسية بدون كتب أو دفاتر ولا يبدون أي رغبة في التعلم واحترام المدرسات والمدرسين الذين غالبا ما يقايضونهم السلم الاجتماعي الفصلي بالنقط اتقاء شرهم وبالانتقال بناء عليها إلى المستويات الأعلى بدون تعلم وبدون مواصفات نجاح. ماذا تنتظر المنظومة من هؤلاء غير الغش وسيلة لإحراز الشهادة؟ غير مديح المتواطئين وتوعد النزهاء بالويل والثبور؟ غير هذا الكرنفال البئيس الذي يشبه حالة سوريالية عصية على الإدراك والإصلاح.