آخر الأخبار

ما بين العدمية السياسية وعقلية المخزن السلطوية

معاً من أجل الوطن والديمقراطية
بعد ثمان سنوات على الحراك الشعبي المتمثل في حركة 20 فبراير،وبعد حراكات اجتماعية في مناطق مختلفة، وما أدت إليه من نتائج تعاكس المسار الذي تم تدشينه مع هيئة الإنصاف والمصالحة، وبعد تجربتين حكوميتين أسالتا الكثير من المداد. يحق لنا اليوم الحديث عن أفول هذه المرحلة التي أضحت سماتها العامة،الإيجابية والسلبية، على قدر من الوضوح، مما يمكن معه القيام بتقييم شامل لمنجزاتها وإخفاقاتها استخلاصاً لما يمكن استخلاصه للمستقبل.
ولا بأس في البداية من التذكير بالوضعية السابقة على هذا التاريخ، كي نلم بالموضوع من مختلف جوانبه. اعتقادا منا أن المغرب بعد وفاة الحسن الثاني شهد حركة إصلاحية شاملة غير مسبوقة في الماضي، الذي اتسم في مجمله بالركود. كما نعتقد أن هذه الحركة الإصلاحية كان لها الدور الأبرز في تجنيب المغرب المآلات التي آلت إليها الأوضاع في بلدان عربية أخرى.
وبدون أن نثقل هذه الورقة في تفاصيل منجزات هذه المرحلة، نكتفي بعناوين هذه الإصلاحات، لأن ما يهمنا بالضبط هو التركيز على آفاق المستقبل، والتوجه إلى رحابته، انطلاقا من آمال وتطلعات مشروعة، مؤمنة بحتمية التقدم، واثقة في إمكانات المغرب من استدراك مكامن العطب، ومن رفع التحديات ومواجهة كل المشاكل والعراقيل التي تعيق تطوره الديمقراطي الجاري.
لقد فتح محمد السادس منذ توليه مقاليد الحكم أوراشا عدة وفي مجالات مختلفة، وقد صادف ذلك دخول المغرب منذ سنة 1998 مرحلة التناوب التوافقي التي لازلت أعتبرُها مرحلة أساسية في المسار الديمقراطي المغربي، أنهت مسار الصراع الطويل بين الملكية والأحزاب والتيارات السياسية المعارضة. وتتمثل عناوين هذه الإصلاحات فيما يلي:
– المفهوم الجديد للسلطة الذي أعطى الانطلاقة للخروج من النمط السلطوي القديم في أفق الانتقال من “عقلية مخزنية” قائمة على العنف والإقصاء تربت عليها السلطة لمدة عقود من الزمن، ليحل محلها تصور جديد للإدارة الترابية، ووظيفة جديدة لرجال السلطة، وتدبير جديد لعلاقة الإدارة بالمواطن؛
– تحسين وضعية المرأة من خلال تعديل مجموعة من القوانين أهمها القانون الجنائي، مدونة الشغل، مدونة الأسرة، قانون الجنسية، تجريم التحرش الجنسي، فضلا عن الجهود التي تدعم تمكين المرأة وتطوير مشاركتها في الهيئات التمثيلية وطنيا وجهويا ومحليا؛
– إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة لتصحيح أخطاء الماضي في مجال الحريات والحقوق. والأهم في هذه الخطوة الكبيرة والمتميزة ليس تعويض ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ورد الاعتبار لنضالاتهم المشروعة فحسب، بل الأهم هو توصيات الهيئة التي تعد مدخلا لتحصين الأجيال القادمة من تكرار الممارسات القاسية التي عرفها المغرب سنوات الجمر والرصاص؛
– رد الاعتبار للغة والثقافة الأمازيغية كمكون أساسي للهوية الوطنية، والإقرار بمشروعية إدماجهما في المنظومة التربوية، وإدراجهما في المجال السمعي البصري؛
– اقتراح الحكم الذاتي لإنهاء النزاع المفتعل حول الصحراء؛
– فتح نقاش جدي لتطوير النظام الجهوي المرتكز على التضامن بين الجهات والتناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانيات، كخطوة نحو اللاتمركز الواسع ضمن حكامة ترابية ناجعة؛
– إطلاق برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية القائمة على الشراكة والتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، والتي تهدف إلى محاربة الفقر والهشاشة والتصدي لمختلف أنواع الإقصاء الاجتماعي بالأحياء الحضرية الفقيرة والجماعات القروية الأشد خصاصا؛
– توجه الدبلوماسية المغربية نحو مزيد من الدينامية،وتعميق العلاقات مع أقطاب دولية صاعدة، وتنويع شركاء المغرب الدوليين، تُوج بعودة المغرب إلى حظيرة الإتحاد الإفريقي، وهي خطوة جريئة لتجاوز العزلة التي عاش فيها المغرب عن محيطه الإقليمي نتيجة سياسة الكرسي الفارغ؛
– فضلا عن سياسة الأوراش الكبرى، والاستراتيجيات القطاعية اللذان يعتبران رافعتان للتنمية؛
– ويعتبر اعتماد المغرب دستورا جديدا بتاريخ 29 يوليوز 2011 أهم حدث سياسي من حيث تقدُمه على جميع دساتير المملكة التي استفتي المغاربة بشأنها منذ أول دستور سنة 1962. إذ توفق في إعادة صياغة مهام السلط في إطار يسمح بقدر من التوازن والوضوح في الصلاحيات، وكرس الطابع التعددي للهوية المغربية،واستقلال القضاء وتوطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتدعيم اختصاصات البرلمان الرقابية والتشريعية، وتكريس تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات، وتقوية مؤسسة رئيس الحكومة،فضلا عن التنصيص على حماية منظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، ومراعاة طابعها الكوني وعدم قابليتها للتجزيء، وتكريس سمو الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب على التشريعات الوطنية، والتأكيد على ضرورة ملاءمة هذه التشريعات مع مقتضياتها، بالإضافة إلى دسترة مؤسسات الحكامة الجيدة ودعم استقلاليتها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتعزيز آليات الحكامة الجيدة وتخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
إننا من خلال هذا الجرد السريع والمقتضب لأهم الإنجازات التي عرفتها المرحلة المومئ إليها، يدفعنا إلى التساؤل:
– ما الذي حال دون تحسين ظروف العيش اليومي للمواطنين؟
– ما الذي حال دون توطيد دعائم العدل والإنصاف والكرامة الإنسانية وتكافؤ الفرص؟
– لماذا لم تستفد الفئات الضعيفة من الأوراش الكبرى والاستراتيجيات القطاعية؟
– لماذا فشل النموذج التنموي في الاستجابة للمطالب والحاجيات المتزايدة للمواطنين، والحد من الفوارق والتفاوتات المجالية، وتحقيق تنمية متوازنة،منصفة وعادلة؟
– لماذا آلت الممارسة السياسية إلى نفق مسدود؟
فإذا كانت حركة 20 فبراير وكل الحركات الإحتجاجية اللاحقة عليها، قد ركزت مطالبها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، انطلاقا من العلاقة التفاعلية بين الديمقراطية والتنمية. وطالبت بإسقاط الفساد ووضع حد للامتيازات التي تمنح بسخاء في إطار علاقات ريعية مبنية على المحسوبية والزبونية.. فلأن كل المشاريع والخطوات الإصلاحية لم تستطع تحقيق الأهداف التي كانت تصبو إليها.
إن كل المشاريع الإصلاحية التي راكمها المغرب على مر عقدين من الزمن، لم تكن كافية لوضع المغرب على المسار الصحيح للديمقراطية، نظرا لبروز وتنامي ممارسات سلبية نكوصية تشوش على هذه المكتسبات وتفرغها من مضمونها، وتؤشر للعودة القهقرى لماضي غير مأسوف عليه. ولست بحاجة إلى الإكثار من الشواهد، حسبي أن أُذكّر بما نعرفه جميعا:
1- تفاقم الفوارق الاجتماعية سواء بمقياس الدخل والاستفادة مما تزخر به بلادنا من خيرات، أو بالنظر إلى مؤشرات التمدرس والولوج إلى الخدمات العمومية من صحة وسكن وشغل، وسد الحاجيات الضرورية للعيش الكريم؛
2- استحواذ أقلية قليلة على الموارد والخيرات المشتركة، وإخضاع المصلحة العامة لمصالح خاصة ضيقة؛
3- القصور الجلي والواضح في تتبع وتقييم السياسات العمومية، وعدم تفعيل المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة التفعيل الأمثل؛
4- الصعوبات التي تواجه عمل مؤسسات الضبط الاقتصادي والمالي، ومنها مجلس المنافسة، على سبيل المثال لا الحصر، الذي رغم تحوله إلى سلطة تقريرية مستقلة، فإن عمله يظل متواضعا في مجال محاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة الحرة، والحد من عمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار.

في هذا السياق، ظهرت حركات احتجاجية عفوية في عدة مدن وقرى مغربية مطالبة بالعدالة الاجتماعية، ومنددة بالحيف والإقصاء والتهميش المعبر عنه بشعار “ضد الحكَرة”، كان أبرزها حراك الريف، زاكورة، وجرادة.
حراك الريف:
اندلعت الحركة الاحتجاجية بالريف عقب مقتل بائع السمك محمد فكري بالطريقة البشعة المعروفة، لتتحول بعدها إلى حركة واسعة للمطالب الاجتماعية، تحت عنوان عريض، رفع التهميش عن المنطقة. وبدل فتح باب الحوار في الأيام الأولى للحراك والإنصات للمواطنين، والعمل على الاستجابة لمطالبهم المشروعة، تم وضع حواجز أمنية بكل المنافذ المؤدية إلى الحسيمة، وتلفيق التهم المغرضة لهذه الحركة الاحتجاجية السلمية، والإدعاء بأن وراءها نزعات انفصالية (بلاغ أحزاب الأغلبية)، تمهيدا لمتابعة العديد من النشطاء بتهم ثقيلة.
عطفا على ذلك يطلعنا تقرير المجلس الأعلى للحسابات على معطيات صادمة، وإن كانت معروفة لدى المتتبعين للشأن العام، يتعلق الأمر بمشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، إذ من بين 644 مشروعا مبرمجا، لم تسجل حصيلة سنة 2016 منه سوى 5 مشاريع، ولم يبدأ في إنجاز 45 مشروعا آخر، وغياب أية مبادرة فعلية للشروع في إنجاز باقي المشاريع !!
وعلى إثر ذلك تم إعفاء عدد كبير من المسؤولين في الدولة من مهامهم، كما تقرر عدم إسناد أية مسؤولية رسمية لهم مستقبلا. مما يدل على أن المنطقة كانت تعاني من التهميش ومن غياب تنمية حقيقية، وأن مطالب المحتجين مشروعة وهناك ما يبررها، وهو ما يتناقض والأحكام القاسية التي صدرت في حق عدد كبير من الناشطين.
حراك زاكورة :
انطلقت الاحتجاجات في مدينة زاكورة للمطالبة بتوفير الماء الصالح للشرب لسكانه في المنطقة التي تعاني منذ بداية فصل الصيف نقصا شديدا في المياه، بالإضافة إلى الانقطاعات المتكررة في صبيب الماء. ونددت بمماطلة السلطات المختصة في التدخل لإيجاد حلول لأزمة العطش. غير أن قوات الأمن واجهت هذه الحركة باعتقالات واسعة للمحتجين ومحاكمتهم.
حراك جرادة :
بدأت الاحتجاجات الثانية في جرادة عقب مقتل شابين من أسرة واحدة في منجم عشوائي لاستخراج الفحم الحجري، على إثر هذا الحادث تجمع آلاف المواطنين للمطالبة ببديل اقتصادي، خاصة أن مدينة جرادة تعاني من مشاكل اقتصادية تفاقمت أكثر بعد إغلاق مناجم الفحم سنة 1996 والذي كان الأساس الاقتصادي للمدينة، مما فاقم من مستوى الفقر والهشاشة.
من لا يتقدم يتراجع بالضرورة
من أجل الخروج من النفق
في التعاطي مع الحراك الاجتماعي في الريف أو زاكورة أو جرادة ينتصب أمامنا عقلاً أمنياً لا يُعير اهتماما لظروف السكان وقساوة الحياة التي يعيشونها. ولا يُمكنه أن يحس بمعاناتهم والحاجات غير المشبعة لديهم. ومن سوء الحظ، تزامن ذلك مع واقع خنق الممارسة الديمقراطية، وتعطيل الحياة السياسية والتحلل من مقتضيات الدستور، وفقدان الثقة في الأحزاب والنقابات وضعف فعالية منظمات المجتمع المدني. مما فاقم حالة الفراغ والجمود المغذية للبنى المعيقة للتطور الديمقراطي.
ومن هنا نطرح الأسئلة التالية:
– إلى أي حد تم تفكيك بنيات المفهوم القديم للسلطة القائم على العنف والإقصاء؟
– إلى أي حد تم استيعاب المفهوم الجديد للسلطة من طرف رجالاتها؟
– ما هو تأثير هذا المفهوم على التدبير الجيد للمرافق العمومية؟
– هل شكل فعلا آلية لمنع الانحرافات على مستوى استغلال السلطة؟

أما آن لعقل السلطة أن يبتكر شكلا جديدا للتعاطي مع الحركات الاحتجاجية تضمن ممارسة المحتجين لحقهم الدستوري في التظاهر، كما تضمن حماية الأمن والممتلكات العامة والخاصة؟ إذ لا ينبغي بأي حال، إعاقة الحق في التظاهر بقيود يصعب تلبيتها. ولا يجوز منح المسؤولين عن إنفاذ القوانين حرية غير مقيدة للتصرف، بل يجب أن تراعى دائما وفي كل الأحول مبدأ التناسب، وأن تكون وسائل تدخلها ملائمة لتحقيق وظيفتها الحمائية، متناسبة مع المصلحة التي يُعهد لها حمايتها. فليس كل متظاهر فوضوي مارق، خائن مرتبط بأجندات خارجية، يثير الفتن ويزعزع الاستقرار (فضيحة بلا أحزاب الأغلبية). كما لايجب أن تلصق بالقوات العمومية نعوثاً وأوصافاً لا تليق بجوهر وظيفتهم والتي هي حماية الأشخاص والممتلكات وحفظ الأمن العام. ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يسقط الطرفان في نصب العداء لبعضهما البعض. فحرية التظاهر ترتبط بالحق في حرية الرأي والتعبير ارتباطاً وثيقاً، وهي حق من حقوق الإنسان الأساسية نص عليها الدستور ويؤطرها القانون.
لذلك لابد للدولة من تحمل كامل المسؤولية في توفير الحد الأدنى من شروط العيش الكريم ومن الحماية الاجتماعية لكافة المواطنات والمواطنين، وفي التقليص من الفوارق الصارخة بين الأفراد وبين الجهات، وهي صلب وظيفتها. وعلى الجميع العمل، بأقصى درجات الصّدق والعقلانية، على الخروج من حالة الانسداد في الممارسة السياسية، الذي أصبحت نتائجه وتداعياته جليّة ومُخيفة. والمطلوب ليس شيئا آخر غير استيعاب حركية المجتمع واحتجاجات الهامش، وتجاوز التشوهات المقلقة في المشهد السياسي، والانطلاق نحو آفاق المساواة والعدالة الاجتماعية والمجالية، وجعل مبدأ “دولة القانون” مبدءاً ثابتاً. كما لا مناص من الاستمرار في ترسيخ الممارسة الديمقراطية ودعم جهود التنمية، التي لا تُزهر إلا في تربة الحرية وسيادة القانون.
وأول خطوة في هذا الاتجاه هي إطلاق سراح كافة المعتقلين على خلفية تلك الأحداث، والتقدم في تحقيق الملف المطلبي كاملا. واعتبار الحوار المدخل الأساس لإيجاد الحلول المناسبة لجميع المطالب الاقتصادية والاجتماعية في الريف وزاكورة وجرادة وفي سائر الجهات.

يوسف غويركات / الرباط