محمد نجيب كومينة
َتحتاج قراءة تقرير لجنة النموذج التنموي الجديد الى نوع من الترفع عن الشعبوية والصراخ في حال الاختلاف او الاتفاق مع ماورد فيه من تشخيص وتحليل وما يقترحه للمستقبل كي يكون النقاش العمومي مفتوحا فعلا على امكانية الخروج مما يشدنا الى الوراء ويبقي نمونا ضعيفا و فوارقنا الاجتماعية والمجالية صارخة وتنميتنا البشرية فاشلة و بناءنا الديمقراطي هشا و مهددا بالتراجع و السلطوية….الخ.
التقرير، الذي سيصبح لامحالة ميثاقا او رؤية استراتيجية حسب توصيته، وثيقة لا يمكن قراءتها بالسهولة التي يتصورها البعض، لا نها مشحونة بمفاهيم تستدعي امتلاكها او فهمها، و لانها تعتمد اختيارا منهجيا متعددا بتعدد اختصاصات المساهمين في بلورتها، و تقوم على اساس مرجعية فيما يتعلق بالتنمية و الاختيارات الكفيلة بجعلها تحقق جملة من النتائج تستوحي جملة من النماذج … و لانها صيغت كذلك في اطار مؤسساتي وعلى اساس تراكمات سابقة وليست انطلاقة من نقطة الصفر .
وقبل مناقشة التقرير، لابد من طرح سؤال اساسي يمثل مدخلا لا محيد عنه: هل نحن في حاجة الى مراجعة النموذج التنموي الحالي ام لا؟
السؤال، رغم بساطته الظاهرة، بالغ التركيب، لان الامر يتعلق بواقع مركب ينفتح في سيره، وفي زمننا هذا، على اللايقين. ذلك ان ماتثبته التجربة الخاصة والعالمية هو ان التوقع صار بالغ الصعوبة، نظرا لسرعة التغيرات وتشابك المصالح والمجتمعات و حركة الفاعلين و انتقال القيم، مما جعل منهج التوقع يفقد جدواه، وبالمثل فان النماذج المختلفة التي تم اعتمادها وتسويقها هنا وهناك توجد كلها عرضة للانجراف بسرعة مالم يتم تحيينها وملاءمتها، كما ان زرعها في تربة غير ملاءمة تنتهي الى نتائج عكسية، بحيث يتم تدمير ما هو قائم وما يعطي نتائج ولو محدودة دون ان يتمكن البديل من تحقيق وعوده.
اننا في حاجة بكل تاكيد الى نموذج تنموي جديد، وليس الى نموذج للنمو فقط، نموذج يمكننا من تجاوز النمو الضعيف تاريخيا، ومن تعبئة امكانيات النمو في السوق الداخلية، التي اعادت لها الاعتبار الجائحة، وامكانيات النمو دوليا ايضا، خصوصا في هذا الوقت الذي سيعاد فيه ترتيب سلاسل القيم وتوزيعها على نحو جديد نسبيا، و يمكننا من خلق اكبر عدد من مناصب الشغل لساكنة نشيطة تعاني من البطالة والشغل الناقص، ويمكننا من محاربة الفوارق الاجتماعية التي تتعمق وتجعل الفقر يورث جيلا بعد جيل والثروة تتركز بين ايادي اوليغارشية تتحكم في كل شئ، في الثروة والسلطة، و تفرض على البلاد ما يلائمها و لا يلائم البلاد وعموم ساكنتها، ويمكننا من حل مشاكل عويصة تشكل تهديدا وجوديا، وفي مقدمتها مشكلة انهيار نظامنا التعليمي والتربوي الذي يرافقه انهيار للقيم و ضعف في الشعور بالانتماء…، ويمكننا من السير على السكة القويمة والسليمة نحو بناء دولة المؤسسات و سيادة القانون و احترام الحريات وحقوق الانسان و الالتزام باحترام الاختيارات المعبر عنها في انتخابات شفافة ونزيهة ومنتظمة…الخ.، مع التاكيد على ربط كل المسؤوليات بتقديم الحساب.
حاجتنا الى هذا النموذج الجديد ملحة كي نصبح قادرين على النظر الى المدى البعيد، ونتحرر بالتالي من قصر النظر السائد، و تصبح الرؤية مشتركة وكفيلة بجعل جميع الفاعلين يكتسبون درجة عالية من الوضوح لاتخاذ قراراتهم و يساورهم شعور بالامان والاطمئنان دون خشية مفاجئات، وهي ملحة اكثر بالنسبة للدولة كفاعل رئيسي له مسؤوليات شاملة كي تنسق سياساتها العمومية و تسير بها نحو الاهداف المتوخاة بانسجام وبمعرفة باثارها الخارجية les externalités السلبية التي تستدعي المعالجة كي لا تتفاقم و تصبح عرقلة. ذلك انه اذا كانت الفترة التي تلت تقرير الخمسينية قد تميزت باطلاق مشاريع البنية التحتية، التي حققت نجاحا ملموسا، والاستراتيجيات القطاعية، التي لم تف بوعودها كاملة رغم المجهود العمومي، و ادت الى تحاشي السقوط في النمو السالب في سنوات الجفاف، وهي على كل حال استراتيجيات اوحي بها من طرف البنك العالمي الذي اعتمد هذه المقاربة عالميا، و قامت باعدادها شركات دولية، وبالاساس ماكنزي، دون مرافقة حقيقية وفاعلة لدى التنفيذ والتسويق، اذا كان الامر كذلك، فان التنسيق قد بات ملحا للتحكم في الكلفة وتخصيص الموارد النادرة وبالتالي تجنب الاهدار والتبذير الذي طبع تنفيذ بعض تلك الاستراتيجيات المعزولة، وبالاخص مخطط المغرب الاخضر، وجعل كلفتها باهضة في الوقت الذي كان انعكاسها على النمو محدودا جدا وكان اثرها على التشغيل و توزيع المداخيل و محاربة الفوارق سلبيا، بل انها كانت في صالح مزيد من تركيز الثروة و تعميق الفوارق و عدم الوفاء بالتزامات التنمية البشرية والتنمية القروية. هكذا اصبحت التقائية البرامج والسياسات العمومية واعتماد الافقية في تدبير الشان العام كلماات رائجة، لكنها بلا د لالة في الواقع في غياب رؤية تنتظمها وتحرص على التكامل، وهي الرؤية التي غابت مند نهاية العمل بمخططات التنمية وباليات التخطيط، رغم كل ما يمكن قوله بشان تجربتنا التي انحصرت في الادارة و تغلب فيها الروتين الاداري، والتي بات من غير الممكن الاستمرار في التهرب من وضعها.
للموضوع بقية