إدريس الأندلسي
صور كثيرة تغزو المشهد في العاصمة الرباط. لا تكاد تقطع بضع مئات من الأمتار في الشوارع حتى تكتشف سياجات تحيط بأوراش عدة. تختلف أشكال هذه اللوحات التي تخفي موقع المشاريع، قيد الإنجاز، عن الحواجز العادية. تظهر أمامك صور لمعالم الرباط التاريخية بألوانها الزاهية و كلها تحمل شعارا واحدا هو ” الرباط عاصمة الأنوار”. أحاول جاهدا ربط بناء فندق، أو عمارة، أو حتى هدم لمباني سكنية، كما يحدث في حي المحيط، و بين الصور الجميلة التي تحيط بها، و خصوصا بمفهوم ” الأنوار”. ليس من السهل أن تطور شبكة الطرق داخل المجال الحضري، و تحدث تغييرا في حجم و شكل المنشآت الإدارية و الثقافية و الأمنية و القضائية. عرفت الرباط تطورا معماريا في شكلها أعطاها كثيرا من خصائص عواصم عالمية مع إهتمام كبير بالمساحات الخضراء. لكن كل هذه الجهود تظل بعيدة عن شعار ” عاصمة الأنوار”. الأمر فيه كثير من الرموز التاريخية التي لا ترتبط فقط بما هو تراكم للبنايات و البنيات الأساسية.
لا بد أن يكون صناع شعار ” مدينة أو عاصمة الأنوار” قد فكروا في الرأسمال اللامادي مع ربطه بذلك العصر الذي بدأ في القرن الثامن عشر ، و الذي شهدت فيه أوروبا بداية انتقال كبير من عصر وسيط إلى عصر نهضة عبر خلق ثروات علمية و ثقافية شكلت وسائل عبور إلى عصر الأنوار . و قد كان الإنتاج الفكري و الفلسفي في قلب تلك التحولات التي مكنت من ترسيخ قيم الحرية، و تحكيم العقل و تبني الليبرالية، و فصل الدين عن الدولة. و قد حمل مشروع عصر الأنوار مجموعة من المفكرين و الفلاسفة كروسو و ديدرو و فولتير في فرنسا ، و آخرين في كثير من دول أوروبا. الأنوار نفذت إلى عقول و إبداع مهندسي الجمال المعماري في كثير من الدول. و ظل المعمار الحديث في الرباط، و خصوصا في أحياء اكدال و الرياض و السويسي يشهر هوية أخرى غير تلك التي تسر الناظرين، و تطبع على وفاءها لقيم معمارية يتغنى بها عشاق الجمال عبر العالم.
و لا يمكن أن تصبح مدينة أو عاصمة للأنوار لمجرد أنها توسعت عمرانيا و أنشأت فيها بنيات أساسية كبرى. الأنوار ذات بعد ثقافي يتجاوز الإشعاع العمراني. عاصمة الأنوار تصبح اسما على مسمى بإشعاعها الثقافي و بالحفاظ على ثراتها . صحيح أن مأثر الرباط التاريخية تعتبر ذات ثقل تاريخي، و أن هناك مجهودات بدلت في مجال المتاحف و الاكتشافات الاركيولوجية. لكن الأهم في موضوع الأنوار هو تلك الحركية التي يخلقها النشاط الثقافي و كافة أشكال الإبداع. و لا يمكن أن نصف ما تعيشه الرباط ثقافيا بالعامل الذي يمكن أن تصبح ” عاصمة الأنوار “. لا أدري إن زار طلاب مدارس الهندسة المعمارية أحياء الرباط و فاس و مراكش و فاس و طنجة و تطوان ، و آسفي، الحاضرة ” الخلدونية” المنسية، و غيرها من مدننا العتيقة الجميلة و التي تشكل متاحف مفتوحة على محيطها، و مقدمة تحيات جمالية للناظر، سائحا زائرا كان أم مقيما.
ليل الرباط فقير ثقافيا بالمقارنة مع تلك البلدان التي تقدم اكليلا من العروض المسرحية و الغنائية كل ليلة كما يحصل في عواصم أوروبية و كذلك في القاهرة. مسرحنا الوطني، ذو الحجم المتوسط، يشهد برنامجه على تواضع العرض الثقافي في العاصمة. ولا زال المسرح الكبير، الذي تم إنجازه بشكل معماري فريد، يؤثث المشهد العمراني في إنتظار أن يؤثث المشهد الثقافي من خلال إنتاجات كبرى تعكس تنوع التعبيرات الفنية المغربية، و تشكل منتوجا إبداعيا يقصده زوار الرباط الأجانب. و يحتاج هذا الربط بين السياحة و الثقافة إلى إشراك مبدعين ، و جمعيات المجتمع المدني ، المنهكة ، رغم إرادتنا ، ماليا و مؤسساتيا، في خلق صناعة الفرجة الثقافية التي يستجيب لها الجمهور بشكل كبير. و لنا في إقبال الجمهور بشكل كبير على حفلات الفنان بودشار الغنائية مؤشر كبير عن إمكانيات خلق عرض ثقافي و فني مستمر و محفز على خلق منتوج ذو قيمة ثقافية و اقتصادية. و لا يمكن أن لا نذكر الإقبال الذي شهده ،قبل أيام، العرض الفكاهي للفنان الشاب” يسار” و الذي صفق له جمهور تعدى سبعة آلاف داخل قاعة المركب الرياضي محمد الخامس بالدار البيضاء.
و تظل الثقافة هي الإهتمام بمدننا و خصوصا بأحيائها القديمة ، و باشراك السكان في ديناميكية خلق القيمة المضافة ثقافيا. و ليس كل حي قديم غير ذي قيمة ثقافية. ما يحصل في حي المحيط هو بتر لجزء من التاريخ الحديث لمدينة الرباط و بالتالي لجزء من المشهد الثقافي. كان بالإمكان وضع تصور معماري لإعادة هيكلة هذا الحي ،و تطويره بطريقة تشاركية لا تؤثر على شكله المعماري الأصلي. الأنوار تزيد من الإشعاع و تخلق الثروات المادية و اللامادية في توافق و توازن بين القديم و الحديث و ربط العصر بالأصل. و لا يجب أن يستمر توسع الرباط الجغرافي بنظرة تقنوقراطية ضيقة تعتبر الجمال المعماري ، و الأشكال الهندسية الأصيلة غير ذات مردود مالي. و في إنتظار الأنوار، تظل الرباط محتاجة، ككثير من مدننا، إلى من يتعامل مع تاريخها و ثراتها بعيون ينيرها الجمال أولا، و يرعاها صاحب القرار، الحكومي و الترابي، ذو الخلفية الثقافية المتجذرة في وعيه و كينونته في آخر الأمر.