في ذكرى شغف الكتابة التي أسرت طفولتي ذات زمان فلم أكن كباقي أطفال الحي لأنشغل بشغب الحي لوحدي .ولم تستهويني تلك الرسوم القزحية وهي تتلاشى بفعل أمطار غزيرة جرفتها من الذاكرة . ليس بالسهل أن أركب صهوة الضاد وهي تجفل مني كوميض انسل من الافق هاربا حتى لاتقتنصه أعين الساهرين في سمر بلا نهاية .
الذكرى الأولى لتوقيع كتابي “صرخات من أعماق أقبية منسية ” وفاء لروح محمد شبار الذي كان قيد حياته يصر على إخراج هذا المولود للوجود .كانت كلماته بعد قراءة بعض فقرات من المسودة قبل الطبع مشجعة ومحفزة .وانا الذي أعلم أنه يتمتع برصيد ثقافي مهم يظهر جليا من خلال مجالسته في مواقع مختلفة . لاتذكر مفكرا ولا كتابا الا وبسط بين يديك معلومات لاتقل أهمية عنه و تدلل أن الرجل موسوعة بماتحمل الكلمة من معنى . تمشي بتواضع بين الناس لحد لايمكن تصوره .
لم يكن الكتاب أول ثمرة إبداع في مساري بل هناك محاولات من قبل لم يكتب لها الظهور والولادة لحد الساعة . فكرت مليا فوجدت بحوزتي أعمال مشكلة بالأساس من مسودتين قيد الدراسة والطبع طواهما النسيان وتحتاج كل واحدة منهما لأنفض عنها الغبار . الأولى “ومضات على الطريق ” وهي تحبل بأحدات ومسار طويل عمر لثمان سنوات بأحداثها وشخوصها وترجع لسنة 1984 .ومشروع ديوان من الحجم المتوسط تحت عنوان “دموعك على المرآة ” توأمه ورفيق دربه يضم بين أضلعه أشعارا عاطفية تحكي سيرة غربة ابتدأ تدوينها سنة 1987. وكثير من المقالات ضاعت بين ثنايا أحداث وأوراق أضحت أسمالا يصعب رتقها وقد فقدت أغلب ملامحها . كم تشدني الحسرة وأنا أرجع بذاكرتي لتلك المراحل الصعبة وكم يشتد الألم بدواخلي يعتصرني ولا أكاد أطيقه وهي تحضر كهواجس لاتنتهي .
كثيرة هي الصور والوضعيات التي تستدرجنا لشراكها دون علم مسبق. وتستهوينا بنزق فكري لايضاهيه نظير أو ند .تدفعك إلى الإنصياع لسلطتها دون مقاومة . تخوض غمار التجربة بفضول لاحدود له .مهما كلف الأمر لأنك تعتقد بدواخلك أن المواقف لايبنيها التردد والأفكار التي لايجسدها الواقع مجرد تخمينات تموت في مهدها دون أن تجد لها مساحة من التحقق ولا فسحة أمل مشرقة .كنت ولا أزال شغوفا برفع التحدي لأنني أومن بأن الحياة لامعنى لها إن لم يشكل هذا المعطى ركنها الأساس . فلسفة الحياة تؤسس على هدف وقد ترفع السقف مخافة أن تنال يداك المبتغى في ظرف وجيز . كل الأمور المتمنعة تدفعك برغبة لخوض غمار التجربة . وحلاوة العيش أن تقطف ثمارها بعدمعاناة وصبر وطول نفس .قد تسقط في المحاولة الأولى والثانية والثالثة وهكذا دوليك دون أن تستسلم لليأس لأن الإصرار يتملكك للوصول للهدف وهو عشقك الأبدي .
حين حضر الضيوف للقاء بالقدر الذي يطمئنك أن هناك من يقدر ماتكتب وبسط المتدخلون قراءات أغنت النقاش وهي تضيف لمسة إبداعية للنقاش الدائر وتغني تجربتك بملاحظات قيمة . وقفت على حقيقة أن عشق الكتابة لايكفي لوحده وساذج من يعتقد أنه مسار للإغتناء فكل الذين بادروا في لحظة ما بتشجيعي بالكلام على هذه الخطوة لم أسجل لهم حضورهم ذاك اليوم وتبين أنهم مجرد أرانب سباق ليس إلا . لقد استفزوا دواخلي بكلمات محفزة تسائل قدرتي على إصدار الكتاب الأول .كنت أثق في عيونهم وهي ترصد ردودي هل فعلا سأخطو الخطوة الأولى في محراب التأليف أم سأنكس أعلامي حتى لاتظهر مرة أخرى في الساحة . في كل مرة تحاصرني نظراتهم . فكنت أقنع نفسي بخوض هذه المغامرة .فكان الأمر كذلك . أحفظ لهم هذا الموقف فعلى الأقل شجعوني على الخطوة الأولى وسأستمر في درب الكتابة كعشق أبدي يؤرخ لمرحلة ساحرة بمفرداتها وأسلوبها وإبداعها تضاهي الصورة إن لم تكن تفوقها . فشكرا للجميع .
ذ ادريس المغلشي .