محمد الساسي.
أنا شخصيا مصاب بإحباط، أعترف لكم اليوم أنني لا أستطيع استيعاب ما يقع في بلادي، وبوصفي معارضا معتدلا في بلادي، فإن ما يقع في مواجهة الفكر والمعارضة والنقد والرأي، يجعل أطروحاتنا المتعلقة بالانتقال الديمقراطي وبالتطور التدريجي محط سخرية من الناس. المغرب الرسمي دخل في النادي الأمريكي لمحاربة الإرهاب، الإرهاب يجب أن يحارب، والمشكل ليس في هذا المبدأ، بل في الآليات والطرق التي تستعمل في هذه المحاربة، يمكن أن نحارب الإرهاب دون أن نغتال الديمقراطية ، وأن نحارب ظواهر العنف والجريمة وغيره دون أن نغتال الديمقراطية.
يريد البعض أن يقنعنا أن الوسيلة الجيدة هي اغتيال الديمقراطية وقمع الأًصوات المعارضة والتضييق على الأقلام وسد ولجم الأفواه وتضييق الهوامش المتاحة، لدرجة يصبح هناك تساؤل مشروع عن مدى بقاء “هامش ” ديمقراطي، والهامش الديمقراطي ليس هو الديمقراطية طبعا..إننا ليوم نتساءل عن مصير هذا الهامش، نعم الحرب ضد الإرهاب حققت نتائج لا يمكن نكرانها أبدا، لكن ما نراه اليوم هو أن هذا النجاح بموجبه يتم الانتقال إلى حرب ثانية يعامل فيها الصحافيون(ات) وحملة الأقلام والكتاب والمدونون كإرهابين جدد. يكفي أن نطرح تساؤلا كيف يعاقب الصحافيون بعقوبات توازي العقوبات التي تصدر في حق الإرهابين ؟ وعندما أتحدث عن صحافي، فأنا أتحدث عنه بالمعنى الواسع للصحافة سواء كان صاحب موقع أو جريدة أو كاتب عمود أو رأي، أتساءل هل يمكن لشخص أن ينفي أنه لدينا من الصحافيين البارزين المعتقلين أكثر مما كان لدينا في أي لحظة من لحظات تاريخ المغرب، حتى في سنوات الرصاص. طبعا إذا اعتبرنا أن في محاكمة 77 19مثلا التي حوكم فيها عشرات الشباب والمثقفين الماركسيين، كلهم تمت متابعتهم في إطار تكوين منظمة سرية ماركسية..هؤلاء كانوا فاعلين في منظمات ضد النظام ..اليوم أنا أتحدث عن الصحافيين الذين يكتبون فقط ، ويعبرون فقط، دون أن يكونوا فاعلين في تنظيمات وهذه التنظيمات بصورة جماعية تتعبأ في مواجهة الدولة، لم يكن في تاريخ المغرب كله هذا العدد من الصحافيين المعتقلين، لنتذكر المحاكمات الصحافية الكبرى التي تعرضت لها بعض الأسماء المعروفة، في الماضي كان الصحافيون المعروفون في الأغلب لا يكملون عقوبتهم النافذة المحكوم بها، رغم سواد وقتامة المرحلة السابقة كانوا يخرجون بعفو.
الآن رغم التنديد بالاعتقالات التي تطال الصحفيين فنحن نلاحظ مثلا بالنسبة لمدير أحد أكبر المواقع الإلكترونية وسبقه مدير أحد أكبر الجرائد الورقية أنهم أكملوا مدة الحكم عليهم. لقد مررنا من ثلاثة مراحل: من مرحلة كانت تفتعل فيها صعوبات للصحافة مما أدى إلى إيقاف عدد من المنابر، ويمكن أن نربط تلك الصعوبات بالمواقف النقدية لتلك المقاولات، لكن هناك صعوبات خاصة وجهت لنوع من الصحافة المزعجة، إذن في المرحلة الأولى تمت عرقلة عمل الصحافة..في المرحلة الثانية أًصبح عدد من الصحافيين والكتاب الذين يمارسون النقد يضطرون للهجرة، وهذه الهجرة لم يختاروها طوعا، فهناك من منع من الكتابة ببلده ومثال ذلك الصحفي علي المرابط، وقد تزايد عدد الصحافيين المنفيين. في سنة 1994، أًصدر الملك الحسن الثاني عفوه على المعتقلين وعن المنفيين السياسيي، اليوم تحولنا إلى ظاهرة الصحافيين المنفيين ..ما معنى أن يكون في هذه المرحلة صحافييون منفيون مثلما كان لنا سياسيون منفيون ؟ وما معنى أنه اليوم أصبحنا نهدد حتى هؤلاء المنفيين بمتابعتهم في البلدان التي يعيشون بها، هذا غريب، فالآلة القمعية لم تكتف بعرقلة العمل الصحفي بل يتم تهديده وهو في الخارج.
المرحلة الثالثة اتسمت بملفات لم نعتدها، ملفات جنسية ومالية تحوم حولها العديد من الشكوك وتطرح عليها أكثر من علامة استفهام، ولا يمكن لأحد أن يفصل المتابعات الجارية عن سياقها السياسي، وأصبحنا أمام محاكمات غريبة جدا، فعندما يتابع توفيق بوعشرين بجرائم جنسية بناء على شكايات، ويكون عدد الشكايات كبير، وحينما تبدأ المحاكمة نصبح كما لو أننا أمام عقد ينفرط، المشتكية الأولى ثم الثانية ثم الثالثة .يكفي أن مشتكية واحدة تقف أمام القاضي وتنفي ما جاء في المحاضر لكي ينفرط العقد كله من الناحية القانونية، فهذا بناء، المحاكمة بناء، ويكفي أن يسقط أحد الأعمدة حتى تصير منهارة..ما الذي جعل مشتكية تنفي أمام القاضي ما قالت أمام الشرطة القضائية ، ومشتكية تهرب للخارج، ومشتكية نقوم بالقوة بإحضارها؟ عندما تحصل كل هذه الوقائع في محاكمة، فأقل ما يقال عنها هو أنها محاكمة غريبة ..ما معنى متابعة شخص بالاتجار بالبشر؟ واليوم نتصرف أمام النص بسلوك أٌقل ما يقال عنه، أنه توسع في التفسيربشكل ضار بالشرعية و هذا التوسع في التفسير يحول عمليا القاضي إلى مشرع ..
وفي قضية الصحفي حميد المهداوي الذي تلقى مكالمة هاتفية بناء عليها تحول إلى متابع بتهمة عدم التبليغ ..في هذا المجال لا يمكن أن نتابع الشخص عن عدم التبليغ إلا عندما يتأكد هو بصورة قطعية من جدية المشروع الإجرامي، وإلا فإنه في هذه الحالات يصبح أمام القضاء إمكانية الزج بأي مغربي في السجن، ثم بعد ذلك نبحث عن أي نص من النصوص، القاضي ليس حرا في التأويل والتفسير.
في قضية الأستاذ المعطي منجب، فالعالم كله تابع وليس فقط المغرب كله تابع، سلسلة المضايقات والتشهير وجلسات المحاكمات والاستنطاقات إلى أن تم الوصول إلى المتابعة الحالية ..هل يمكن لعاقل أن يخرج هذه المتابعة من هذا السياق، الذي يظهر منه أنه كان هناك تفكير مسبق لاعتقال هذا الشخص ، وهناك جهة معينة بدأت في الحديث عن تبرير الاعتقال فوجدت صعوبة وتوقفت ثم عاودت.. هذا السياق من المتابعات والملاحقات يسمح لنا بأن نصل إلى الاقتناع أن هناك إرادة مسبقة لاعتقال المعطي منجب وهذا التحول يسمح لنا بافتراض وجود إٍرادة مسبقة للمعاقبة والاضطهاد وكبت الحريات.
كملاحظة أخيرة فقد صار المحامي نفسه وهو يآزر المتابعين في هذه القضايا يتعرض لمحن، و لم يسبق في تاريخ المغرب أن وجد المحامون أنفسهم بسبب مآزرتهم لمتابعين معينين صعوبات مثلما أصبح يحدث اليوم، هذا معناه أن هناك إرادة ليس فقط لقمع الصحافيين والمعارضين بل كذلك لحرمانهم من الحق في الدفاع ومن يآزرهم، عندما يضطر محامي في قضية حراك الريف لمغادرة المغرب، ثم يتعرض محامون آخرون لسلسة من المتابعات في قضايا تم تذكرها وأثيرت فقط حينما سجلوا مآزرتهم في ملفات معينة وترافعوا فيها ، فهذا يدل أن قمع الصحافيين والمعارضين وحملة الرأي والأقلام النقدية صار التضييق عليهم حتى حينما يسجنون في حقهم في أن يدافع عنهم محاميهم. نحن نعلم أنه في المغرب كان هناك محامون ومنهم من أًصبحوا وزراء عدل، كانوا يدافعون عن انقلابيين قاموا بالقتل بدم بارد وبقتل الأبرياء ودخلوا القصر بنية الانقلاب، ولم يتعرض هؤلاء للتضييق ووقف المحامون بدون أن يشعروا نهائيا بأي خوف أو تضييق.. والله إني أسأل بكل روح وطنية أليس في هذه البلد من الجهة الأخرى عقلاء ؟ إنكم تحرجوننا نحن المعتدلين، نحن الذين منذ منتصف السبيعينات راجعنا أفكارنا وأطروحاتنا وقمنا يإسقاط أطروحة إسقاط النظام السياسي كشرط للعلمية الديمقراطية .. والله لقد أصبحنا ومواقفنا المعتدلة في حرج بكثرة هذه القضايا المسيئة للبلد”.