جليل طليمات
في ذكرى رحيله … محمد سبيلا : صدمة الحداثة و” مزقة ” وعي النخب
لامراء في أن من دوافع انهمام وانشغال المفكر الراحل محمد سبيلا بالحداثة كمنظومة فكرية وفلسفية هو وعيه الحاد بعمق تأخر مجتمعنا,و إدراكه العميق لعوائق نهضته ,واقتناعه بأولوية تأصيل مفاهيمها وتوطينها في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية .وباعتباره مفكرا متشبعا بفلسفة الحداثة , محيطا بمساراتها وتحولاتها ومفارقاتها, و”خرائطيتها”, وكونه إطارا سياسيا تقدميا خبر الممارسة السياسية منذ حقبة الستينيات الملتهبة بصراعاتها حول الشرعية السياسية , فقد ارتفع بنظره النقدي لمخاضات بناء الدولة الوطنية الحديثة إلى ما هو أبعد من التحديث التقني لقطاعات المجتمع وبنياته التحتية والمؤسسية.., فالأمر,عنده, يتعلق بإشكالية أعمق تتمثل في بناء رؤية حداثية عقلانية ومطابقة للانتقال من منظومة ثقافية ذات نواة تقليدية صلبة, إلى الحداثة الفكرية والسياسية كشرط لا غناء عنه لأي تحديث لا ينحصر في القشور,ولأي نهضة مجتمعية شاملة .
يصوغ سبيلا هذه الإشكالية في سؤال «تراجيدي”: “كيف يمكن أن نكسب الحداثة دون أن نخسر أنفسنا ؟ كيف نكسب العالم دون أن نخسر ذواتنا ؟ هذا رهان أتحدث عنه بلغة التراجيديا والتمزق والكآبة,لأننا نعيشه في كل لحظة من لحظات حياتنا ” 1 .هكذا قارب سبيلا هذه الإشكالية وأطرها ضمن مفهوم مركزي , أمسى مقترنا به في التأليف المغربي والعربي ,هو مفهوم”صدمة الحداثة”,موظفا في ذلك شبكة من المفاهيم المستمدة من مدرسة التحليل النفسي (فرويد,إيريك فروم) في تشخيص مظاهر تلك الصدمة ,وإبراز آثارها على وعي المجتمع ونخبه .هكذا يتحدث سبيلا عن ما أحدثته من “مزقة ” déchirure , ومن “شرخ عميق ” في العقل العربي والإسلامي,ومن صراع في الواقع وفي الوعي بين قوتين : بين جاذبية الحداثة وإغراءاتها,وبين التقليد ومقاوماته لها , فالحداثة الوافدة بالقوة عقب حملة نابوليون على مصر سنة 1798 وهزيمة المغرب في واقعتي إيسلي سنة 1840, وتطوان في 1860 ,هي “حداثة برانية “,لا بذور لها في أرضية مجتمعات تعيش منذ قرون على ماضي الأجداد وموروثهم . وبفعل هذا الاصطدام العنيف بها كحقيقة موضوعية , وواقع لا يرتفع , أفرزت ,كما يبين سبيلا في العديد من أعماله, نمطين من الوعي العربي والإسلامي بواقع التأخر التاريخي والحضاري الذي آلت إليه أمة ظلت لقرون تعتقد بأنها “خير الأمم” :
_ نمط وعي تقليدي للنخبة الثقافية التقليدية, والنافذة في المجتمع, يرجع واقع التأخر إلى التفريط في الهوية الدينية ,إنه وعي إيديولوجي , ظل,” قويا ومترسخا في المجتمع العربي إلى اليوم وإن بدرجات متفاوتة وتلوينات مختلفة” 2 .
_أما النمط الثاني , فهو الوعي الحداثي الذي يدعو مثقفوه إلى نقد جذري للذات العربية ,وإلى الانفتاح على مكتسبات الحداثة الوافدة من الغرب, معتبرين ذلك هو الأفق الممكن لتجاوز عوامل التأخر المتمثلة في الاستبداد السياسي والجمود الفكري والتخلف الاجتماعي, إلا أن أثر هذا النمط من الوعي , يؤكد سبيلا , بقي خافتا ومحدود الفعالية بفعل رسوخ التقليد ونفوذه, فتعرض بالتالي, للهجوم والرفض من طرف قوى التقليد بدعوى أنه وعي تغريبي ومستلب.
في مقاربته الاستشكالية والتشريحية لهذين النمطين من الوعي بالحداثة ,يبرز سبيلا قاسما مشتركا بينهما: فهما معا, أي النمط التقليدي والنمط الحداثي, يواجهان تمزقا, أو بتعبيره” مزقة” حيث أن ” الحداثة تحاول في إطار صراعها مع التقليد أن تتكيف معه وأن تلبس لبوسه وجلبابه لتكسب المشروعية , كما أن التقليد يجد نفسه مضطرا ليلبس جلباب الحداثة والتحديث حتى يكسب المصداقية”3 وعليه , فإن صراع الحداثة والتقليد في مجتمع تقليدي حتى النخاع , ليس صراعا تقاطبيا يمكن مقاربته بصيغة : حداثي مقابل تقليدي أو محافظ , فذلك في تقدير سبيلا ” يفيد في الصراع الإيديولوجي والصراع السياسي , لكن على حساب العمق والتراتبيات الفكرية العميقة “4 ويرجع سبيلا “مزقة “وعي النخبتين التقليدية والحداثية بالحداثة إلى طبيعة الحداثة العربية كحداثة ” دخيلة متسللة .. لا حداثة أصيلة متولدة.. ,حداثة مرتبطة بالصدمة والرضة وانكسار الوعي واحتلال الأرض” 5 , ولعل من أجلى تمظهرات هذه ” المزقة ” في وعي النخب التقليدية والحداثية على حد سواء , كما يشير سبيلا إلى ذلك, مقاربتهما لقضايا اجتماعية وسياسية حساسة كقضايا الديمقراطية وحرية المرأة والمساواة بين الجنسين.. , حيث يتمازج في مقاربتهما ,ويتعايش التقليد والحداثة لينتجا وعيا أو فكرا هجينا متأرجحا بين جاذبية التراث والتقليد , وبين إغراءات وجاذبية الحداثة, وبذلك أسس التقليد والحداثة ماوسمه سبيلا ب “علاقة ماكرة وخادعة” بينهما حيث يسعى كل طرف,من داخلها, إلى احتواء الآخر في لعبة ترويض وتسخير لكسب الشرعية والمصداقية.6
في ضوء هذا التشخيص ” التراجيدي” لآثار صدمة الحداثة على وعي النخب الثقافية العربية والإسلامية, يعتبر سبيلا أن أي تجاوز فعلي لوعي عربي “حداثي هجين” ولهيمنة “ومكر التقليد”, يرتبط يتطلب حتميا بتمثل واستيعاب الحداثة باعتبارها بنية كلية , فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية و تقنية ,,الخ , بنية لا تتجزأ, تؤخذ كلها أو تترك كلها . إن ذلك, هو الرهان الحضاري الذي “لايحسم بتحويل إرادي للمؤسسات والمنظومات القانونية , بل عبر تحولات ثقافية بعيدة المدى” 7, وعبر مشروع حضاري للتحديث والنهضة لا يختزل التحديث في رزمانة من الإجراءات التحديثية لقطاعات المجتمع وبنياته التحتية والمؤسسية , فالمشروع الحداثي هو في جوهره مشروع حضاري, ثقافي وفكري وسياسي واجتماعي ,غايته استنبات ثقافة الحداثة ,” وزرع بذورها بدل الاكتفاء بقطف ثمار شجرتها ” ,ويستدل سبيلا على ذلك بحدود تجارب التحديث التقني للمجتمعات العربية منذ حقبة الستينيات, ففي ظلها ازدهرت النزعات المحافظة والتيارات الأصولية المتطرفة .., ما يجعل من التحديث الثقافي والفكري أولية أي بناء للدولة الوطنية الحديثة , القائمة على الديمقراطية السياسية والاجتماعية , والتنمية المتوازنة والعادلة في توزيع الثروة , وعلى الحريات الفردية والجماعية , إنه ( التحديث الفكري) ” القاعدة الصلبة لكل تحديث سياسي يريد أن يكون فاعلا طويلا الأمد ” 8
ولأن الراحل محمد سبيلا , كما أشرت في مقالة سابقة , هو سليل الحركة الوطنية الديمقراطية اليسارية , وأحد رموزها منذ ستينيات القرن الماضي, فقد بقي مهتجسا بوضعية اليسار المغربي , مشخصا ومحللا أعطابه وأمراضه, داعيا إلى تخلصه ” من نزعته الإقتصادية الاختزالية , ومن الاختزالية السياسية , ومن احتقار دور العوامل الثقافية والفكرية في التطور الاجتماعي .. ” 9 .
لقد شكلت الحداثة في فكر محمد سبيلا أفقا للتفكير العقلاني في سبل تجاوز عوائق التحديث والنهضة المجتمعية, فلم يكن, في انهمامه بالحداثة الفكرية والثقافية والسياسية ,مبشرا إيديولوجيا ,ولا داعية لمبادئها المجردة ,وإنما كان باحثا موضوعيا مسلحا بثقافة فلسفية معاصرة غنية , وبروح الفلسفة : بالنقد والاستشكال , ونحت المفاهيم ,وصياغة المفارقات , بدل استسهال الأجوبة الجاهزة وأحكام القيمة الإطلاقية .
في رحيل المفكر محمد سبيلا خسارة مزدوجة: خسارة لنموذج للمناضل النقدي الذي جمع في سيرته بين الفعلين الثقافي والسياسي, وخسارة الحقل الفلسفي والأكاديمي لمفكر أغنى الفكر العربي المعاصر بإنتاجا ته النوعية , تأليفا وترجمة.
و يبقى عزاؤنا فيه, حضوره الدائم من خلال ما خلفه من رصيد فكري فلسفي وعلمي أمسى مرجعا لا غناء عنه في أكثر من مجال وقضية.. فسلام لروحه الحرة والأبية.