إدريس الأندلسي
قبل عقود من الزمن، كنا و نحن أطفال نسمع عن اعتقال أشخاص في حينا يتعاطون تدخين ” السبسي ” المعبئ بالكيف. كانوا أناسا بسطاء يشترون كمية من ” النعناع” المعروف بالعشبة ذات التأثير المهدئ الخفيف . هؤلاء كانوا يتقنون عمليات تحضير ذلك الخليط بين التبغ و الكيف إلى جانب إتقانهم ” لتشحير ” الشاي في البراد. كانوا يقدمون خدمات للأسر التي لم تكن لها الوسائل لمقاومة الألم الذي يشعر به الرضع عبر استنشاق ما تبقى في ” السبسي ” من مخدر الكيف .بعد هذه الفترة تكلفت إحدى المجموعات، التي كانت تخضع لسيطرة بعض شباب الأحياء المجاورة لحي الزاوية العباسية بمراكش إلى جانب الكثير من الأحياء التاريخية للمدينة ، باستيراد النبيذ الأحمر من الحي ” الأوروبي جيليز ” إبان الإستعمار إلى الأحياء القديمة. الأمر أصبح كبيرا. إرتفعت الأحجام المستوردة عبر ” السقاءين ” الذين كانوا يستعملون دراجات هوائية ثم دراجات نارية. ثم توالت حركة الاستيراد ليتم إستعمال شاحنات تصل إلى الجوانب من سور المدينة الذي يمكن من تسويق كميات أكبر خلال الأعياد. و قبل هذا وجبت الإشارة إلى أن سلطات الإستعمار ” ناضلت ” من أجل إدخال السيجارة الأوروبية القاتلة للمغرب. و في هذه الفترة كانت الوكالة التي أوكل إليها بيع التبغ تحمل إسم ” وكالة التبغ و الكيف ” . و لكن هذه التسمية لم تصمد أمام لوبي السيجارة الفرنسية لفترة طويلة. و هكذا تم تجريم تدخين الكيف رغم أنه أقل فتكا بالصحة من السجائر المسمومة.
و أستمرت ظاهرة الاتجار في الخمور عبر شبكة شعبية ظلت محفوفة بالمخاطر في كل الأحياء الشعبية. كل هذا في وقت لم تتحول فيه العمليات إلى صناعة الحشيش التي ابدعها الغرب الأوروبي في بداية السبعينيات. لم يكن أحد من مستهلكي الكيف كعشبة على علم بدخول المواد الكيماوية إلى عادة كانت بعيدة مما ستعرفه أشكال تحول سوق المخدرات الخفيفة إلى مستوى تصنيع سموم ضارة بالجسد و بالعقل. كانت الدولة بكل أجهزتها تحارب هذه الظاهرة. لكن حجم الأموال المتداولة في هذه السوق أصبح كبيرا. و كبرت معه وسائل اغتناء سريع لبعض البارونات و خصوصا في شمال المغرب. آلاف الدراهم تحولت كدخل إلى الملايين ثم الملايير. و كل هذه الأرقام انعكست على مستوى الودائع البنكية و على سوق العقار و زيادة أشكال الإستثمار في المطاعم و المقاهي و حتى في سوق الانتخابات. ثم ظهرت سموم بيضاء أكثر فتكا بالعقول و بالمال و لكنها عابرة للقارات. ” الغبرة ” استهدفت أبناء الاغنياء و بعض أبناء الطبقات المتوسطة و حطمت مستقبل الكثير منهم . و تدفقت الأموال على بعض البارونات و معها أشكال جديدة للإجرام المافيوزي الذي وصل أوجه إلى مستوى تدخل مجرمي أمريكا اللاتينية الذين قتلوا ، عن طريق الخطأ ، طالبا في الطب بمراكش ظنا منهم أنه أحد المطلوبين للمافيا، و هو المالك لمقهى كبير بالحي الشتوي بمراكش لا زال مغلقا إلى اليوم . كشفت الاعتقالات التي تمت بسرعة مهنية إلى شبكة دولية لتبييض الأموال. قد تكون بعض العقارات الراقية شاهدة على فعل المال المرتبط بالمخدرات لا زالت تذر دخلا على بعض الاباطرة. و تدفقت الأموال و أثرت على حجم الكتلة النقدية و سكتت آليات الرقابة على الأبناك حتى دخلنا إلى المنطقة الرمادية في مجال مقاييس مجموعة العمل المالية المعروفة بإسم ” الكافي” (بتضخيم الكاف). المشكل معروف و يكشفه حجم المال الورقي المتداول في أسواقنا و الذي تجاوز 370 مليار درهم عند متم 2022 . و لا أدري إن كانت منظومتنا البنكية تلتزم بدورها في مجال شفافية متابعة حسابات العملاء.
تزايدت شبكة الأموال ذات المصدر المشكوك فيه. و استطاع كثير ممن راكموا ثروات دون مسببات تتعلق بنشاط اقتصادي مشروع من الاقتراب من مجال ممارسة السياسة. لم يجدوا عقبات في طريقهم و أصبح منهم البرلماني و رئيس المجلس البلدي و الإقليمي و الجهوي و المتحكم في القرارات المتعلقة بالتعمير و العقار. تم غض الطرف على الاغتناء المفاجئ لكائنات لم تكن لها علاقة لا مع السوق و لا مع الإستثمار. و بسرعة تحول المشهد السياسي إلى حضانة لأصحاب المال المشبوه. زاد حجمهم و لم ينفعهم المال في فهم السياسة و مبادىء المواطنة. أصبحوا ذوي بأس شديد و كثيري الحضور في ميدان القرار و التأثير. و تراجع أولي النهى و العقل و محبي الوطن و الذين يخافون ألله و يخافون على بلادهم و على فلذات اكبادهم.
هل كان قياديو الأحزاب على عدم معرفة بمصدر ثروات من طلبوا تزكيات للتقدم للانتخابات. بالطبع لا و ألف لا و النتيجة أن المناضل المؤمن بمبادئ حزبه أحس بطعم خديعة دفعت بالمؤمنين بنبل العمل السياسي إلى إعلان طلاق بينهم و بينه . و بين ماض جميل بني على الإيمان بالمبادىء و الولاء التام للوطن و للمؤسسات، دخل أصحاب المال المشكوك في مصدره إلى البرلمان و الى كافة المجالس و أصبحوا قوة تصعب مقاومتها. و هذا لا يعني أن الشرفاء لا يوجدون من ضمن من يسيرون الشأن العام بكثير من الإلتزام و الوفاء للوطن و للمواطنين. أصبحت سوق التزكيات مربحة و بعيدة عن المراقبة النضالية. و الأمر هان بعد أن عم حتى لدى يمين و يسار و وسط و كل الدكاكين ذات الأسماء الغريبة و المسماة، مجازا، أحزابا مغربية.
أصبح المواطن يتخذ من أفلام الثلاثاء و الأربعاء، التي تبث من داخل البرلمان فرجة على مهازل أبطالها ، في غالبيتهم غير متعلمين و ذوى مستويات دنيا، لا يفقهون إلا في سبل الاغتناء السريع و مناصرة أعداء الممارسة السياسية التي تريد بناء أركان الوطن في زمن التحولات الإجتماعية و الإقتصادية و البيئية و السياسية. و أصبحت فلتات اللسان، حسب تعريف فرويد، معبرة عن حالات نفسية هي التي كانت مصدر للتشريع لأكثر من عقدين من الزمن. و بعض الهؤلاء وقعوا في قبضة العدالة و لا زال بعضهم ينتظر نتائج البحث الذي تقوم به الأجهزة الأمنية المختصة تحت إشراف النيابة العامة.
هل يجهل المواطن المغربي المحب لوطنه كيف وصل أشباه سياسيين إلى ما هم عليه من جاه و غنى و ” سنطيحة” في المجالس و تمكنوا، رغم ضعفهم المعرفي ، من مركز قرار في التدبير المجالي و الإداري. المواطن يكاد يتأكد بأن اللعبة تكاد تستفيد من تواطؤات كبرى على عدة مستويات قابلة للتواطؤ في أشكاله العابثة بمستقبل الوطن. و لكن بزوغ فجر جديد. بإرادة عليا، بدأ يبشر بتحولات قادمة. نعم يجب أن تستمر مؤسسات المجتمع المدني و السياسي في تقديم شكايات ضد كل من ظهرت ضده شبهات بالاغتناء غير المشروع رغم أنف وزير العدل الذي له رأي آخر. و لكن المغاربة و مؤسساتهم التليدة لهم الرأي السديد. لن تكون مواطنا فاعلا إذا لم تكن من اؤلئك الذين يحاربون المنكر بفعلهم أو بلسانهم أو بقلبهم و ذلك أضعف الإيمان.
مؤسستنا القضائية تعطي إشارات إيجابية في يومنا لكل المواطنين مهما كانت درجتهم و ثروتهم و مواقعهم. الوطن قوي بمؤسساته في هذا اليوم و في الغد و بعده. و لقد خاطب عاهل البلاد كافة المسؤولين عن ثروة المغاربة و قال بصريح العبارة ” أين هي الثروة ؟”. و في هذه الأيام يتابع المغاربة بكثير من الإهتمام قضية مطروحة أمام محكمة الاستئناف بالدار البيضاء. مجموعة من المتهمين توجد رهن الاعتقال بتهم كبيرة. و ينتظر أن تتسع دائرة المتهمين خلال الأيام و الشهور المقبلة. أصبح الوطن و المواطن لا يتحمل من يسيطرون على خيراته و قراره ممن لا يخلقون ثروات و لا يدبرون سياسات ذات مردود و يتفننون في السيطرة على القرار بعنجهية و في غياب أي قدرة على التغيير البناء. هؤلاء يعبدون الطريق لكي يجتاح كل الانتهازيين كل الميادين و يقتلون كل ما تبقى من وفاء لقيم الانتماء للوطن.
ماذا يمكن أن يتوقع المغربي الذي ينتظر الخير لوطنه و من وطنه حين يشاهد على التلفاز من يعتبره عدوا لكل قيم هذا الوطن. لا أنكر أنني أحب أن أرى الشباب و الكهول و النساء يجلسون في كراسي المؤسسة التشريعية، و لكنني أجد نفسي، كغيري من المغاربة غير راض عن مشهد بلادي ، حين أرى كثيرا من المشتبه في ثرواتهم و بعض المعروفين بسلوكياتهم غير اللائقة حاضرين بقوة في مؤسسات بلادي. صنع الفساد اصناما تكاد تصبح ذوات تترفع عن مجال المحاسبة. بعضها يمضي في الهجوم على حرمة المواطن و لا يبالي. و كل ما يقوم به أبطال هذا الزمن من استيلاء على الثروات دون محاسبة يهدد ثقة المواطن في مؤسسات البلاد.
يكاد الكثير من أعداء بلادنا الذين يعيشون بيننا أن يحسبوا أنفسهم في منأى عن المحاسبة. و لكن انتظارات الوطن و المواطنين تزداد زخما و مطالبة على مستوى السياسة و المجتمع. و هذا الوضع يزيد من حدة و من تطور العوامل الموضوعية المؤدية لانفجار الأزمات و تأجيج الصراعات. حين يصبح الفاقد للمشروعية جاثما على الصدور و متمسكا بالقدرة على الحضور في البرلمان و المجالس المنتخبة، فأعلم أن الاستفزاز قد بلغ الأوج. كل هذا يحصل في بلادنا التي اختارت النهج الدمقراطي دون أن تتحصن ضد فعل الفاسدين. كثيرهم صرح بالممتلكات في ظرف مغلق وضع لدى المجلس الأعلى للحسابات، ولكن لا وجود للمحاسبات. و هكذا كفر المواطن بالانتخابات و بالمجالس و بالأحزاب و بالنقابات و بكل الأشكال المؤسساتية للوساطة السياسية.
يعتقد الكثيرون من المتفائلين أننا على أبواب مرحلة حاسمة في ميدان الحكامة ببلادنا. قد يكون الغد مرحلة تنزيل مبادىء المحاسبة و إعطاء مدلول فعلي للشفافية التي نص عليها الدستور. فجر المغرب الذي يريده المغاربة هو ذلك الموعد بين إرادة ملك و شعب لتنظيف الممارسة السياسية و الإدارية و الإقتصادية من كل العوامل السلبية التي تعبث بعلاقة المواطن بمؤسسات بلاده. نعم لفتح ملفات الفساد في إحترام تام للقانون و لحقوق الإنسان و لاستقلال القضاء. و النصر و العزة للمغرب الحر الأبي الواحد الموحد من طنجة إلى لكويرة. الذل كل الذل على من يتاجرون بإسم الوطن و الثقافة و الإعلام و الرياضة و الفلاحة و التعليم و الدين و الأخلاق. كل هؤلاء تجار مخدرات و صناع سوق الابتزاز الجنسي و السياسي كما كان الحال عليه في زمن الكوميسير ثابت. المهم هو حماية الوطن من كل أفعال من يعادونه. و الأهم هو أن تتم محاسبتهم بالقانون و ليس بعقلية تصفية حسابات أو بغريزة الإنتقام. و لكن الوطن، في هذا الزمن الصعب، ماض إلى مستقر ثابت و مستجيب لإنتظارات المواطنين.