مخطّط تأهيل وإصلاح المنظومة الصّحية لمواكبة الورش الملكي الكبير:
يُعدّ القانون-الإطار رقم 09.21 المتعلّق بالحماية الاجتماعية الّلبنة الأساسية والإطار المرجعي لتنفيذ الرؤية الملكية السّديدة في مجال الحماية الاجتماعية، وتحقيق الأهداف النبيلة التي حددها جلالة الملك نصره اللّه لتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية.
وفي هذا الإطار، فقد ترأس جلالته، حفظه الله، يوم الأربعاء 14 أبريل الجاري بالقصر الملكي بفاس، حفل إطلاق تنزيل مشروع تعميم الحماية الاجتماعية وتوقيع الاتفاقيات الأولى المتعلقة به، كما تمت المصادقة في المجلس الحكومي الأخير على مرسومين تطبِيقِيّين لتوسيع التأمين الإجباري عن المرض لفائدة الأطبّاء وفئة المهندسين المعماريين.
وسَيُمكِّن تنزيل مقتضيات القانون- الإطار المذكور من ضمان التّطبيق الأمثل لهذا الإصلاح الهيكلي وفق الجدولة الزمنية والمحاور المحددة في الخطب الملكية السامية.
وقد أشارت المادة 4 من هذا القانون إلى أنّ تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض يتمّ من خلال آليتين:
توسيع الاستفادة من هذا التأمين للفئات المعوزة المستفيدة من نظام المساعدة الطبية؛
تحقيق التّنزيل التام للتأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا، ليشمل كلّ الفئات المعنية، واعتماد الآليات اللازمة لهذا الغرض، لاسيما تبسيط مساطر أداء وتحصيل الاشتراكات المتعلقة بهذا التأمين.
ولبلوغ هذا الهدف، التزمت السّلطات العمومية من خلال بنود القانون-الإطار المذكور بـ”إصلاح المنظومة الصحية الوطنية وتأهيلها” (المادة 5)، وبـ”مراجعة النّصوص التشريعية والتّنظيمية المتعلّقة بالحماية الاجتماعية وبالمنظومة الصّحية الوطنية” (المادة 18) وبتعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض في أجل أقصاه نهاية 2022 لصالح 22 مليون مستفيد إضافي لتغطية تكاليف العلاج والأدوية والاستشفاء (ديباجة القانون).
وبهدف التّنزيل الفعلي لهذه المقتضيات التي تأتي استجابة للتعليمات المولوية السّامية الدّاعية إلى إعادة النّظر، بشكل جذري، في المنظومة الصّحّية، وجعل النّهوض بقطاع الصّحّة من المبادرات المستعجلة التي يجب مباشرتها بهدف إصلاح اختلالات برنامج التغطية الصحية “راميد”، وتصحيح التَّفاوُتات الصّارخة التي تعرفها المنظومة ومعالجة النّواقِص التي تَعتري تدبيرها؛
وانطلاقاً من تشريح الوضع الحالي، تتمثل أهم مظاهر محدودية المنظومة الصّحّية الحالية في: تعاقب مجموعة من الإصلاحات التي عرفتها المنظومة الصحية دون إحداث نقلة حقيقية و بلوغ الأهداف المنشودة، حيث بلغت المنظومة درجة التَّشَبُّع (saturation): (نَذْكر من ذلك: مبادرة تكوين 3.300 طبيب/سنة في أفق 2020 – برنامج المساعدة الطّبية ‘راميد’ – برنامج تأهيل البنيات التحتية 2016-2021 – برنامج دعم قدرات تدبير قطاع الصّحّة PAGSS (2007-2011)- برنامج إدارة وتمويل قطاع الصّحّة PFGSS (2001-2005) –برنامج تأهيل العرض الاستشفائي BEI (منذ 2006)؛
النقص المُزمِن في الموارد البشرية، وغياب التّوازن الجهوي في توزيعها: إذ تعرف الوضعية الرّاهنة عجزاً بنيوياً كمّياً ونوعياً في مهنيّي الصحية بحاجيات تصل إلى 97.566 (32.522 من الأطباء و65.044 من الممرضين) حيث لا تتعدى الكثافة الحالية 1,7/1.000 نسمة (ما يعني خصاصاً مُهوِلاً يصل إلى 2,75/1.000 نسمة طبقا للغايات المحددة في أهداف التنمية لمستدامة)، كما أن نسبة استعمال المناصب المالية بالنسبة للأطقُم الطّبّية والتمريضية والتّقنية تَطْرَح تَحدياً كبيراً بالنسبة للقطاع الصّحّي إذ لا تتجاوز في بعض الأحيان حاجز 30%، إضافة إلى تراجع القيمة الاعتبارية للمهن الصحية ببلادنا، وانعدام العدالة في التّوزيع الجغرافي لها …
عدم تكافُئ العرض الصّحّي الذي لا يستجيب لتطلّعات المواطنين، إذ يتميّز عرض العلاجات الصّحّية بضعف مؤشّرات الولوج، وبوجود فوارق بين الجهات وبين الوسطين القروي والحضري، وكذا تقادم البنيات التّحتية وضعف سياسة الصّيانة، وعدم احترام معايير الخريطة الصحية في إحداث المؤسّسات الصّحّية العمومية، وغياب التّحفيزات من أجل جلب القطاع الخاص وتشجيعه على الاستثمار في المجال الصحّي وفقا لمعايير الخريطة الصّحّية…
ضُعف حكامة المنظومة الصحية والتي تتمثل في ضعف التّكامل والتنسيق بين مكوّنات العرض الصّحّي الجهوي بسبب غياب مَسلك مُندمج للعلاجات وغياب التّرابط بين مختلف مستويات الرّعاية الصحية (المراكز الاستشفائية الجامعية – المستشفيات – المراكز الصحية للقرب)، وضعف حكامة المستشفيات ونجاعة أدائها بسبب نمط التدبير المستقل (SEGMA) وضعف مواردها الذاتية..
محدودية تمويل القطاع الصّحّي الذي يَعتمِد، بشكل رئيسي، على المساهمة المباشرة للأسر التي تصل إلى 50,7% (مقارنة بالمعايير الدولية المحددة في 25%)، وضعف التمويل التأميني والتّعاضدي الذي لا يتجاوز 25%، إضافة إلى محدودية الميزانية المخصّصّة للقطاع الصّحّي التي لا تتجاوز نسبة 6% من الميزانية العامة للدّولة (بينما توصي منظمة الصحة العالمية بـ12%)؛
لكل هذه الأسباب، انكبت وزارة الصّحّة على إعداد برنامج إصلاحي للمنظومة الصّحية خصوصا وأن واقع التغطية الصّحية الأساسية سيغطي مستقبلا 22 مليون مستفيد جديد، الشي الذي سيرفع من الضّغط على النّظام الصّحّي الوطني في شِقيه العام والخاص
وتستند أهم مكونات هذا الإصلاح على 4 مرتكزات:
تثمين الموارد البشرية من خلال:
مراجعة القانون رقم 131.31 المتعلّق بمزاولة مهنة الطّب لرفع المعيقات والقيود التي يفرضها على مزاولة الأطباء الأجانب بالمغرب، حيث سيُمكِّن ذلك من فتح الباب أمامهم لمزاولة المهنة وبنفس الشروط التي يضمنها القانون لنظرائهم المغاربة، لما لذلك من إيجابية على البنية التحتية الصّحّية وعلى توفير التجهيزات بجودة عالية، ومن تحفيز للكفاءات الطّبية المغربية المقيمة بالخارج على العودة إلى أرض الوطن والاستقرار به بشكل دائم؛
إحداث وظيفة عمومية صحية عبر مراجعة القانون-الإطار رقم 34.09 المتعلّق بالمنظومة الصّحّية وعرض العلاجات لملاءمة تدبير الرّأسمال البشري للقطاع الصّحّي مع خصوصيات المِهن الصّحيّة؛
تحسين جاذبية القطاع الصّحّي العمومي وتحفيز العنصر البشري؛
وإصلاح التّكوين في المجال الصّحّي.
تأهيل العرض الصّحّي عبر تدعيم البعد الجهوي وذلك من خلال:
إحداث الخريطة الصّحّية الجهوية؛
أجرأة البرنامج الطبي الجهوي؛
تأهيل المؤسّسات الصّحية واعتماد مقاربة جديدة لصيانة البنايات والمعدّات الطّبية؛
إقرار إلزامية احترام مسلك العلاجات؛
وفتح رأسمال المصحّات أمام المستثمرين الأجانب.
اعتماد حكامة جديدة بالمنظومة الصّحية تتوخّى تقوية آليات التّقنين وضبط عَمل الفاعلين وتعزيز الحكامة الاستشفائية والتّخطيط التّرابي للعرض الصّحّي، من خلال إحداث هيئات جديدة لِلتّدبير والحكامة بالقطاع الصّحّي؛
تطوير النّظام المعلوماتي عبر:
إحداث نظام معلوماتي مندمج لاستغلال جميع المعطيات الأساسية الخاصة بالمنظومة الصّحّية بما فيها القطاع الخاص؛
تدبير الملف الطبي المشترك للمريض؛
وتحسين نظام الفوترة بالمؤسّسات الاستشفائية.
إنّ تجسيد إصلاح المنظومة الصحية سيحتم الإسراع بإصدار جميع النّصوص التّشريعية والمراسيم التّطبيقية المتعلّقة بها وتعديل النّصوص القائمة:
القانون-الإطار رقم 34.09 المتعلّق بالخريطة الصّحّية وعرض العلاجات؛
القانون رقم 131.13 المتعلّق بمزاولة مهنة الطّبّ؛
القانون المتعلّق بالوظيفة العمومية الصّحّية؛
قوانين إحداث هيئات التدبير والحكامة المشار إليها سابقاً
اعتماد هيكلة جديدة للإدارة المركزية بما يضمن نقل الاختصاصات الممركزة للمؤسّسات الجهوية؛
إحداث مؤسّسات من أجل تدبير أمثل لمختلف برامج الصّحّة العمومية وتعزيز قدرات الرّصد ومحاربة الأوبئة وتحسين تدبير السّياسة الدّوائية الوطنية، كالوكالة الوطنية للصّحّة العمومية.
في نفس هذا السّياق، لا بد من التّذكير بالمجهودات الكبيرة التي بُذلت حتّى الآن، في ظلّ الظروف الاستثنائية لانتشار وباء كورونا، بعد إمداد المنظومة الصحية بالوسائل وتعزيز إمكانات اشتغالها قصد إعدادها لكل الاحتمالات والرّفع من قدراتها. وهو ما مكّن من تحقيق عدّة نتائج إيجابية:
الاستجابة السّريعة لمختلف متطلّبات الوقاية ومكافحة الجائحة، عبر تعزيز المستشفيات بالأسرة والسوائل الطبية والمعدات الجديدة خاصة أجهزة التنفس الاختراقي، واقتناء عدة تجهيزات تجاوزت ما تم اقتناؤه على مدى العشرية الأخيرة؛
تسريع وتيرة إتمام عدد من المؤسّسات الاستشفائية الجديدة لضمان جاهزيتها ودخولها الخدمة سنة 2021، ممّا سيُمكِّن من رفع الطّاقة السّريرية بـ 2.475 سرير إضافي؛
إعداد برنامج طموح خلال سنة 2021 لتأهيل قرابة 1.500 من وحدات الصحة الأساسية باعتبارها البوابة الرّئيسية للولوج للخدمات الصحية؛
التفكير في طرق مبتكرة لتدارك النقائص والإكراهات عبر البحث عن صيغ مُثلى لتحقيق اِلْتِقائية السّياسات العمومية في بعض البرامج والمشاريع وذلك من خلال إطلاق خطط للعمل الوطني متعدد القطاعات؛
الانكباب (بمعية باقي الشركاء وخاصة الوكالة الوطنية للتأمين الصحي) على تسريع ورش تعميم التغطية الصحية الشاملة من خلال بلورة برامج مهيكلة تستند إلى: مراجعة القانون رقم 65.00 المتعلق بمنظومة التغطية الصحية الأساسية ليستوعب كلّ المتغيرات التي تفرضها المرحلة، وتقييم سلّة العلاجات المعتمدة حاليا…وغيرها، بغية تقليص المصاريف المتبقية على عاتق المـُؤمَّن.
في الختام، من الضّروري الإشارة إلى أنّ الحالة الوبائية للبلاد، كونها متحكم فيها نسبياً حتّى اليوم رغم القلق الناتج عن ظهور طفرات فيروسية جديدة، فإنّ ذلك يستدعي منّا بَذْل المزيد من الحيطة والحذر لتجنّب حدوث انتكاسة فيروسية على غرار ما تشهده العديد من دول أوربا وأمريكا وآسيا.
لقد شَكلت هذه الظروف الاستثنائية وغير المسبوقة جَرّاءَ الوضع الوبائي، مساحة مفتوحة من قيم التعبئة والتّضامن والتآزر المجتمعي، وفرصة كبيرة للتفكير والمبادرة بإصلاح البنيات التحتية المجتمعية وتأهيلها، سيما المنظومة الوطنية الصّحّية، بُغية التأقلم مع مُتغيرات المرحلة واسْتشراف بِناء مغربِ ما بعد كورونا، أكثر قوة وتماسكاً من ذي قبل، تحت قيادة راعي الأمة، مولانا صاحب الجلالة، الملك محمد السّادس، دام له النّصر والتّمكين.