إدريس الأندلسي
لامني بعض الأصدقاء عن عدم الكتابة عن مدينة أحلامي و مولدي و دراستي إلى نهاية السلك الثانوي. سألتهم ما الخطب و ماذا لحق بالحمراء من أذى و الكل يتكلم عنها بكثير من الإثارة و العشق وصولا إلى الوله. و هنا وجدت نفسي و كأنني ذلك الذي فتح صندوق “باندورا” . قال أحد الأصدقاء لا تأتي إلى مراكش و تظل حبيس المناطق الجميلة أو تلك التي حظيت بالاهتمام و صورتها الكاميرات و عشقها أصحاب المال و نجوم الأعمال و السياحة و الفن.
فهمت المعنى و ترجلت من باب تاغزوت في شمال مراكش و النابعة من قلب الزاوية العباسية نسبة إلى الطود و رجل الإحسان و المتصوف الفاعل في واقع الفقر صاحب ” الحزب” بمفهومه كدعاء و تقرب إلى ألله تعالى. فتحت العين بكثير من الإنتباه و سرعان ما شعرت بضيق في التنفس. السيارات تجوب ما توفر من طرق ضيقة و الدراجات النارية تخترق الازقة بعنف تاركة وراءها دخان و ضجيج. طمأنينة التجوال في المدينة العتيقة تحولت إلى جحيم. من ” ديور الصابون” إلى سقاية ” شرب و شوف” تكاد لا تعير النظر إلى جمال النقش على الخشب و إلى العمل الكبير الذي حول ” الفنادق” الحرفية إلى شبه متاحف جميلة بفعل تمويلات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و بعض الاستثمارات الخاصة. تحاول المرور عبر الطريق الجانبية لضريح سيدي عبدالعزيز التباع أو تلك الزنقة المؤدية إلى سوق الجلد فتعيقك حركة الدراجات النارية و الأصوات المنبعثة من منبهات الصوت. الأمر يستمر في الأسواق المتخصصة في النحاس و البلغة و صباغة الصوف و التي تحولت بفعل فاعل إلى متاجر تبيع نفس السلع كما حصل في كل الأحياء القديمة و التي تؤدي إلى ساحة الرحبة .
أما جوهرة السوق و التي كانت إلى ماض ليس بالبعيد علامة على أصالة تتدهور حاليا و هي سوق السمارين، فقد تأثرت هي كذلك بهجوم سلع بسيطة و ربما ” صينية أو تركية” على منتوجات تقليدية اصيلة ذات جذور تاريخية. قبل عقود كان التجول في الأسواق بالنسبة للسياح و لسكان المدينة لحظات استمتاع و اليوم أصبح الخوف من حادثة سير أو التعرض لتحرش أو لاعتداء شيئا شبه طبيعي. و الأكثر من هذا أن الأحياء العتيقة لم تعد تلك الأحياء النظيفة التي تنبعث من روائح التوابل و أصناف البخور و ما تسلل من روائح الطواجن و الطنجيات من داخل المنازل. دخان منبعث من دراجات و ازبال تتراكم و سلوكات لا تعير اهتماما لمبادئ تكلم عنها بن رشد الذي عاش في حي الزاوية و دفن بها قبل أن ينقل جثمانه إلى إسبانيا. هذا الفيلسوف كان يعتبر حق الإنسان في جمال الطبيعة و عطر الورود واجبا و توفيره لازما.
بعد سنة 1977 أوكل أمر المدينة لمجالس توالت و تفرجت على تدهور بنيات المدينة العتيقة. و جاءت موجة الرياضات و المطاعم التقليدية و توسعت المدينة و لم تنل المدينة إلا التوسع في العمران و نزوح آلاف باعوا أراضيهم و لم يحملوا معهم غير أموال ضاع الكثير منها في غياب تعليم و ثقافة. هاجت ظاهرة ” الويكاند” في مراكش و تعدد الزوار منهم من استحسن الولوج إلى مراكز القمار و منهم من حاول استغلال فرص الإستثمار في العقار و منهم من قلد غيره في التغني بفرصة زيارة مدينة يؤمها المشاهير .
اليوم مراكش تنقصها بنيات اقتصادية لخلق صناعة و فلاحة و خدمات تخلق القيمة المضافة و الشغل. مراكش تختنق كل شوارعها بالازدحام الكبير الذي يجعل القادم من الدار البيضاء يقطع بضع كيلومترات في ساعة أو ساعتين قبل الوصول إلى بيت أو فندق. مراكش أصبحت ضحية غياب نخبة تضم خبراء و ذوي تجربة مهنية عالية و الأمر ينطبق على جهة مراكش آسفي. منذ أكثر من عقدين و أغلب المسؤولين تصل ملفاتهم إلى القضاء و لا تعرف نهايتها القانونية لطول المساطر و التعقيدات المسطرية التي يجب أن يحلها إصلاح القانون الجنائي و مسطرته في قريب سياسي. قضايا كبيرة عرف بها التدبير الجماعي لأغلب من كانوا على رأس المدينة الحمراء. اللهم عجل بالجزاء لكل من لم يخدم مدينة سبعة رجال بنية صافية. لست من أصحاب احتراف الأدعية لكنني أجد كثيرا من الراحة النفسية في اللجوء الى ” الحكم العدل “.لا زالت قضايا تفويت أراضي و بنايات كازينو السعدي أمام القضاء و لا زال ملف مؤتمر المناخ العالمي و صفقاته أمام القضاء و هناك من رحل عن هذه الدنيا و دفنت معه قضايا و لا زال بعض النكرات إلى أمس قريب يتغنون بقدراتهم على الاغتناء السريع و هم لم يعرفوا للعمل المقاولاتي سبيلا و لا تجربة لهم في خلق الثروة و القيمة المضافة و مناصب الشغل. و لكنهم انتصروا علينا و علمونا أن من اقترب من مصالحهم ستشهر في وجهه الورقة الحمراء. لكن الزمان كشاف و الحق يظهر و ينجلي كل غطاء عن كل ظلم.
من حسن الحظ و من جميل الأعمال و جليلها ما يقوم به ملك البلاد لرد الاعتبار لمدينة هي الوحيدة التي كانت عاصمة لإمبراطوريتين مرابطية و موحدية و احتضنت أول جامعة في فضاءات مسجد بن يوسف و مدرسته و التي يحاول البعض أن يتجاهل تاريخها و سبقها في التعليم و تخريج العلماء. و لكننا اليوم نواجه أناس يكتفون بالتواجد لتدبير أمور يومية عادية و لا يحملون مشاريع إستراتيجية لمدينة يعرفها العالم. اهدتها الطبيعة جمالا و حمتها جبال الاطلس و جملتها واحات النخيل و لكن مسؤول اليوم لا زال يكتفي بالتفرج على تشوهات معمارية و آثار بيئية و انزلاقات تدبيرية. مراكش تحتاج انطلاقة ذات بعد إستراتيجي بعيد المدى. أما الباقي فهو مجرد تبادل أدوار بعد كل موعد أو استحقاق انتخابي.