آخر الأخبار

مراكش الف حكاية و حكاية لعبد الله العلوي

                الشريف القوانين 

كان الشريف عندما عرفته ، وأنا الولوع بالقصص والروايات ، بائع كتب مستعملة ، وكان مستواه الدراسي أوليا ، إذ لم يتجاوز تعليمه الكتاب القرآني ، ولم يك من حفظة القرآن الكريم ، بل بضع سور وآيات فقط . لكن بفضل مهنة كتبي صـار يـقـرأ بعض الصفحات من هنا وهناك ، وكـان الـقـراء الـذيـن يـزورون مكتبته الصغيرة يناقشونه في مختلف المواضيع فتكون لديه رصيد لابأس به من المعلومات والأسماء والعناوين . وغدا يستشهد بابن القيم الجوزية ، ويعـرج في الكلام على أجاثا كريستي وشرلوك هولمزو أحيانا توفيق الحكيم . كان الشريف أسمر سمرة خفيفة ، متوسط القامة ، تراه دائما يركب دراجة عادية . وعندما استقل المغرب في 1956 كان يقيم في الرباط العاصمة ، فلا ينفك يحدثنا عـن ذكرياتـه في المدينة التي تحكـم المغـرب وعـن  شخصياتها التي تعرف عليها بعد الاستقلال . مباشرة  انخرط في الجيش ، لكنه لم يستطع الاستمرار كما يروي ، فقد قضى ستة أشهر فقط في الثكنة ، لـم يستطع النهوض باكرا … وتحمل التدريبات القاسية ، والأدهى -كما يقول- أن على الجندي أن يعطي السلام للضابط الأعلى رتبـة كلمـا التـقـاه أثنـاء التـداريب أو بعـدها أو صـدفة أو أثناء فترة الراحـة ، وكـان هـو يـرفـض ذلـك بـدعـوى أن السلام يعطى فقط أثناء التداريب أو الحراسة أو أثناء المهام لا خـارج ذلـك ( فـلا يمكـن وأنـا أكـل أو أشـرب أو أرتاح أن أعطي التحية أوالسلام فأجمع رجلي وأضع يدي على رأسي ! ) فكان يحال على التحقيق ، ويدافع عن نفسه بأن القوانين العسكرية تناضل لصالحه ، فأطلقوا عليه ( السي القوانين ) وسرعان ما أصدروا قرارا بطرده بعد أن قضى قرابة ستة أشهر دون أن يتعلم شيئا فغادر الجندية ، وصار بائعا جوالا في سوق الأحد ، وتعرف على امرأة عزم على الزواج بها لولا مصائب حالت دون ذلك ، وهي اعتقال شقيقها البارون الأكبر في الرباط . رجع إلى مدينتـه مـراكش -يقـول- لأن الرباط لـم تستقبله كمـا يجب ولم تقدر مواهبه . وظل يروي ذكرياته في العاصمة ، وفي كل مرة يحكي نفس الحكاية بنفس جديد ووقائع كان قد نسيها في المرات السابقة ، لذلك لا يشعر السامع بملل عندما يكرر نفس الحكاية ، لأنهـا تـروى بسيناريو مزيد ومنقح في كل مرة . وبرجـوعـه مـن الرباط -يقـول عمل في عدة أعمال مارسها بالرباط فكان بائعا متجولا ، وبائعا في الأسواق ، واستقر أخيرا في أحد الأحياء بائعا في أحد الدكاكين ، إلى أن حول الدكان إلى مكتبة صغيرة لبيع الكتـب المستعملة ، كـان يـذهب عصـر ركل جمعة إلى سمسرة الكتب التي تعقد في مسجد ابـن يـوسـف بعـد الصلاة … وسرعان ما ترك هذه المهنة لأنهـا نـادرا ما يأتي مـن ورائهـا ربح ، فهي هواية أكثر منهـا تجـارة . وتحـول إلى عمل آخـر هـو الإسكاف دون مهارة أو إتقان لهذه المهنة ، لكنه يقول إن هذا العمل هو عمل الأجداد ورثه أبا عن جد . وهو وإن كان يغطي جزءا من صوائر المعيشة فدخله قليل ، خصوصا وأن له أسرة تحتاج إلى دعم مالي لابأس به ، فطلب رخصة وسيط عقاري ، وصار يمارس عملين في نفس الوقت والمكان . كنـا جماعـة نذهب إليه في هـذا الـدكان لنستمتع إلى حكاياته الفريدة ، وكان يحـب أن يسيطر على الوضع ، فلا أحـد يتدخل أو يمس بصدقية حكاياته . وذاع في الحي الذي يعمل به أنه يعرف الكثير عن القوانين والتعامل الإداري ، فكان البعض يلجأ إليه لاستفساره في هذا الموضوع أو ذاك ، ومن الكبائر عنـده أن يتدخل شخص ما ويجيب بدلا منه . كان لـه صـديق لدود يعانده ويتدخل معارضا فتاواه ، ومرة جاء شخص يستفسر الشريف عن اعتزامه شراء دراجة نارية لا تتوفر على رقـم المحـرك . فـتـدخل الفضـولي قبل أن يجيـب الشريف وأبلغ المستفسر أن شراءها بـأوراق إدارية وفي السوق الرسمي يعفي من الرقم ، فنهض الشريف غاضبا قائلا : « أنا عندما كنت في الرباط اشتريت دراجة عادية مـن نـوع ” كوبر ” زرقاء وكنت أسير مرة في باب الأحـد ، وإذا برجلين قويين وعلى ضخامة يشيران لي بأصبعهما : تعال ، فالتفت يمينا ويسارا ففهمت أنني أنا المقصود ، رفعت الدراجـة أريـد ضـربهما لإهانتي بإشارة الأصبع ، حين أدرتها على رأسي أولا ثم ثانيـا قبضـا علـي مـن الخلف وأخـذاني إلى دائرة الأمن في جامع الفنـاء … ووجدا أن الوصل المتعلق بشراء الدراجة مكتوب بحبر شديد الزرقة والاسم بحبر أقل زرقة ، فاكتشفت زورية الوصل رغم أنه من السوق الرسمي لبيع الدراجات » . لم ينتبه الشريف إلا بعد مدة إلى أنه كان في الرباط ثم صار في دائرة الأمن في مراكش ، فالحكاية طويلة لم يشعر فيها بالانتقال الخارق أو المستحيل ادعاه متأثرا بالسخرية التي خاطبه بهـا صـديقه الذي كان يعتبره نقمة ربانية ، ويقـول : « لا شـك أنـي ارتكبـت ذنبـا فأرسـل الله هـذا المنحوس ليعذبني » . أبلغنـا هـذا الـصـديق في يـوم مـن الأيـام أنـه كـتـب ” قصيدة ” عن الشريف ، استهلها قائلا : ” الجيمومة الخضراء في وجه النعامة ” فقلت له لماذا هذه الكلمة ؟ فقال : لأنه طويل القامة كرشه ككرش الفيل خبزته على ظهره مثل الثقيل وكـان الشـريف يحـاول أن يتفادى رؤيتـه وأحيانا يغلـق الـدكان للابتعاد عنـه ، خصوصـا عنـدما وصـلت الشريف رسالة من امرأة تطلب منه الزواج لكونها أرملة، ورثت أموالا طائلة ، وقـد أعجبهـا وقـار الشريف وشيبه وتريده أن « يستر عليها » . ذهب الشريف إلى الموعد المحدد في الرسالة . كان يوما قائظا ، وانتظر طويلا وأدرك أن الأمر مقلب ، فطلـب مـن الجميع دون أن يخبر أي واحـد أن يكتب له رسالة ، وبعد مقارنة الخطوط لم يتعرف على كاتب الرسالة لأن صديقه اللـدود كتبهـا بيـده اليسـرى عمدا . روی تومـا تـراهن لنا الشريف أنه كان يعـرف شخصـا اسـمه عدة أشخاص على من يستطيع أكل < = عبرة > 10 كيلو من الملح ، فغلبهم وأكل الملح كله ، وأن شخصا كان يعرفه كان يهيئ الطنجية كل الأيـام وهـو يقطع اللحم بتر أصبعيه ، ولم يكتشف ذلك إلا بعد أن تسلم الطنجيـة مـن ” الفرناتشي ” ، وشـرع في يوم ، وفي أحد الأكل فتبين له فقدان أصبعيه . كان الشريف ينتقد الأوضـاع ويقارن بين الماضى والحاضر ويجـد أن الأمـور تـسـوء ، خصوصا في الجانب الأخلاقي ، وقـال لـنـا يوما إن السباب سيتبدل ، فقلنا له كيف أن السـب سيتغير ، هذه حكاية غريبة ؟ فقال لنا :

ألم تنتبهوا ، ينادون الجرسون بالشريف ، وذات السمعة السيئة بالحاجة ! قلنـا نعـم ، فـقـال لـنـا السـب سيتبدل ، فهم يقولون ابن كذا ، لكن في المستقبل القريب ، سيصير السباب : يا ابن الفقيه الذي ولدك ، أيها المصلي خمس صلوات ، يا ابن الأم الفاضلة ، وسيلتقي الواحد بالآخر قائلا : أهلا بابن الحرام ، فيجيبه الآخر مرحبا ابن الزنا و يتعانقان . كانت متعة الشريف عندما يسافر إلى مدينة ما ، فيشاهد أشياء لا يشاهدها غيره ويرى أماكن وخصومات ومعارك لا تحـدث إلا له ، وعندما يعـود مـن البيضـاء ، يتحـدث عـن أهلهـا قـائلا : ” أهـل البيضـاء مثل عماراتهـا عمالقة وأقوياء ، وعضلاتهم مفتولة وإذا دافعك أحد عرضا في الزحام فقد يسقطك ، لأنهم يتميزون بالغلظة والقوة الجسدية ” . ويذكر أنه وقعت له عدة مشاكل مع سالما . وإذا سألك الشريف هؤلاء ، لكن بلبقاته كان يخرج هل زرت مدينة كذا ، فلا تقل زرتها لأن سيل الحكايات سيتوقف . يجـب إذن أن تنكـر معرفتـك بالمدينة حتى يمتعك بحكاياته التي لم تقع إلا له وحده .