كنت قد زرت مدينة مراكش مسقط رأسي ومهد الشباب في الأيام القليلة الأخيرة بعد غيبة طويلة، وجلت شوارعها، أتفقدها واحدة واحدة، وحمت كالفراشة بين دروبها وزقاقها وأرجعت الذاكرة إلى الوراء، فانتابتني موجة من الحزن والأسى جراء التغيير العمراني الجارف الذي جرى ولازال يجري في هذه المدينة ، أصبحت مثل عادة كبار السن أريد للزمن أن يتجمد، استوقفني الحنين أيام الطفولة والشباب، وأعاد إلى ذهني ذكريات رائعة لأيام رائعة، تراكمت عليها الأيام والسنون عندما كان جدي “رحمه الله”يوقظني بعد الفجر من أجل معاونته في حمل جلود الاكباش على ظهر حماره والسير به أميالا من حي زاوية سيدي بلعباس درب المرستان مقر سكنانا وقتذاك مرورا بسيدي إسحاق حيث الحانوت مكان حرفته إلى واد اسيل بأطراف المدينة عبر باب تاغزولت وقبور شو وباب دكالة من اجل غسلها في الوادي…
كان رحمه الله يمتهن حرفة” لباط” ينتج صوفا وجلدا و أكوام من”سدا” (سنابل من الصوف لصناعة الجلاليب)، فبالرغم من أن الطريق طويل جدا ويشعرني بالملل والتعب ،فانا ممن يفضل الاستمتاع برذاذ الندى الصباحي وركوب الحمار وقيادته متوهما أني امتطي جوادا حقيقيا، حيث أنك ترافق الأشجار والأودية والآبار التي نسميها “لخطاطر” كانت أحياء باب دكالة وباب الخميس يعجان بها في زوايا كثيرة منها إلى أن تصل واد اسيل، وفي طريقك تتأمل الوجوه، فترى المنشرح الذي يرى الحياة بنظرة مشرقه تشع من وجهه ليبادلك التحية المعهودة “الله يسعد الصباح”،وترى المقطب من كبلته الدنيا بمشاقها الذي يوحي لك منظره بالصرامة والجدية…
وجوه مراكشية متباينة تعكس نظرة أصحابها لهذا الصباح الباكر، ولا تخلو طريقك من مسافات طويلة مليئة بأشجار النخيل المحملة بثمار البلح ، تدخلك في لحظات غاية في الانشراح حين ترشقها بحجارة، يتساقط البلح رذاذا وكأنك تمارس لعبتك المفضلة تنسيك هموم الدنيا كلها، ولكن ماذا عن بقية الأحياء التي كانت حبلى بأشجار النخيل والجنان والآبار، ماذا عن مصير النخيل التي كان عددها يفوق الآلاف والتي كانت أحد ابرز معالم مراكش المدينة؟ أصبحت الساحات الخضراء تتراجع أمام الاسمنت المسلح، اسمنت يسابق بعضه افقد المدينة نخلها وبلحها فانتهى زمانه، تغيرت جغرافيا المدينة خلال سنوات قليلة وتبدلت ملامحها سريعا،وأضحى النخيل كأعجاز نخل خاوية…
حين تتعرف على بعض الوجوه القديمة يغرقونك في ذكرياتهم وهم لا يكفون عن الحديث: كل شيء تغير كل شئ غلا وارتفع ثمنه،الأحياء لم تعد تضم سوى الغرباء كل شئ في هذه المدينة صار اسمه الغرباء،دروب شعبية بناسها الطيبين احتلها الغرباء حولوا منازلها إلى دور للضيافة، كل شئ ازداد ارتفاعا واشتعالا، الشوارع غاصة بكل أشكال المواصلات، والسيارات لم يعد أصحابها يجدون مركنا لها، المدينة صارت مدينة الأثرياء و الأغنياء، بعد أن كانت مدينة البهجة مدينة البسطاء والفقراء…
نصل الوادي ونشرع في الغسيل بنبات ” تيغيغشت” المستعمل لغسل الصوف وإعطائه لونا ناصع البياض ورائحة مميزة مع استعمال عصا غليظة تدعى “الطراشة” على ترانيم أنواع كثيرة من طيور “طيبيبط” و”ڭريڭر” و”أم قنين” الجميلة، وما أن تبدأ الشمس تلسعنا بقليل من خيوطها، حتى نتوقف عن الغسيل ونعود للبيت وكلنا حيوية ونشاط حتى أنك تشعر أن الحي كله يتثاءب ويستيقظ ببطء…
تلك حياة مراكش التي أمدتنا بكل المعاني مكتنزة بما هو جميل ونبيل وإنساني،هذا الحنين هو الذي أعاد في مخيلتي كل تلك الذكريات، فليرحمكما الله يا جدي ووالدي، ويا لمرارة التغيير من بعدكما، ومن بعد المدينة التي صرنا فيها غرباء نزورها كما يزورها الأجانب السياح.
الأستاذ محمد الماطي.