سعد سرحان
عن دار صفصافة للنّشر والتّوزيع بمصر، صدرت التّرجمة العربية لديوان “قداسات هرطقية” للشّاعر الأرجنتيني إيباريستو كارييجو (1883-1912)، وهو الديوان الذي صدرت طبعته الأولى بلغته الأصلية سنة 1908، أي حين كان الشاعر في الخامسة والعشرين من العمر.
لقد كان كارييجو هامشيًّا بالنسبة للنّخبة في بلاده، ولم يتغيّر الأمر، على الأرجح، إلّا بعد أن كتب عنه بورخيس كتابًا سنة 1931، أي بعد رحيله المبكّر بحواليْ عشرين سنة، وهو الكتاب الذي كان ضروريًّا للشاعرين معًا: لكارييجو الذي كان ولبورخيس الذي سيكون.
ما استوقفني حقًّا في الديوان، هو تلك العتبة الكأداء التي تقول: هذا العمل نشر ضمن برنامج لدعم الترجمة تقدّمه وزارة الخارجية والشؤون الدينية الأرجنتينية. ولمّا كان مصدرُ النسخة التي أمامي هو معرض الكتاب بالرباط، فالعمل استفاد أيضًا من دعم وزارة الثقافة المغربية ممثّلًا في مجّانية الرِّواق على الأقلّ. وبهذا يكون الشاعر الأرجنتيني المولود في القرن التاسع عشر، يسعى بيننا حيًّا فصيحًا في القرن الحادي والعشرين، بفضل حرص بلاده على أرواح الأفذاذ من أبنائها بجعلها، متحرّرة من الزمن، تحلّق تحت أكثر من سماء.
حَسْبُ الأرجنتين أنها أنجبت بورخيس، فهو مكتبة بصيرة في إهاب كاتب أعمى. أمّا وأنّها أنجبت، أيضًا، كورتزار وساباتو وخوار وثوبورتشيا، فهذا يجعل منها قوة أدبيّة عظمى. ومع ذلك، لديها برنامج لدعم الترجمة تقدّمه، لا وزارة الثقافة كما يُفترض، وإنّما وزارة الخارجية والشؤون الدينية: أمّا الخارجية، فلأنّ الأدب هو أحد الوجوه الصّقيلة للبلد في مرايا غيره من البلدان. وأمّا الشؤون الدينية، فلأنّ الأدبَ، عن حقّ، عقيدةٌ لا اختلاف حولها.
لكن، ماذا عن المنحى المعاكس؟
هل لنا أن نتخيّل قارئًا أرجنتينيًّا، في المعرض الدولي للكتاب ببوينس أيريس، وهو يتصفّح ديوان شاعر عربي صدرَتْ ترجمتُه بدعم من إحدى وزارات بلاده؟
هل لنا أن نتخيّل، في هذا المعرض بالذّات، أعمال دنقل أو عبد الصّبور مترجمةً على سبيل ردّ التحيّة عاليةً لصفصافة مصر؟
لندع الخيال جانبًا، ولنذهب رأسًا إلى الواقع المغربي وعاصمته الرباط، وقد اختصرت عواصم القارّة جميعًا، إذ بايَعْنَها عاصمة للثقافة الإفريقية هذه السنة، هي التي كان لها مهرجان باذخ يُتوّجها عاصمة ثقافية كلّ عام.
بسبب كورونا عاش العالم ثلاث سنوات عجاف، عرفت الحياة خلالها ركودًا في معظم المجالات، ولم تكن الثقافة بمنأى عن هذا الركود: فلا مهرجانات، ولا معارض ولا عروض…
ثمّ عدنا. فكانت الرباط لا البيضاء.
لقد خلّف قرار نقل معرض الكتاب من الدار البيضاء إلى الرباط غير قليل من الاستياء. فالمهرجان والمعرض والكرنفال والموسم وسوى ذلك من الفعاليات يرتبط بمدينةٍ وليس ببلد. فلا يمكن أن نتخيّل مهرجان كَانْ يُقام في نيس حتى لو نُصّبت عاصمةً للثقافة العالمية، وليس الأوروبية فقط، مثلما لا يمكن أن يُقام موسم حَبّ الملوك في آزرو أو كرنفال ريو دي جانيرو في برازيليا لأيّما سبب… فاللّباس ما يُستعار وليس الإهاب.
أمّا تغيير موعد المعرض من فبراير، قلب الموسمين الثقافي والدراسي، إلى يونيو، على بعد أيام من امتحانات نهاية السنة، فوحدهم القائمون عليه يُقدّرون تداعيات ذلك.
ولئن كانت دورة الرباط، رغم ما رافقها من جدل، قد انتهت نهاية سعيدة، فالفضل في ذلك يعود، في جزء منه، إلى سلاسة المدينة، مثلما يعود في معظمه إلى كُلفة الدورة التي وصلت أضعاف ما كانت تُكلّف الدار البيضاء، وهي الكلفة التي من غير المقبول معها أن تكون كعكة الرباط من دون حبّة كرز. أقصد بالكرز الكتابَ المغربي، الغائب الأكبر عن المعرض غيابَ أهل العرس عن الحفل وموائده. أمّا أن يضطر الكاتب المغربي أن يُصدِر كتبه على نفقته ليُؤمِّن حضورَها في المعرض، فلَهُوَ كمَنْ يدفَعُ ثمن وجبتِه في مناسبةٍ تُقامُ في بيته.
يقينًا أن لا أحد سيحاسب الوزارة على المبلغ الضّخم الذي صرفَتْه على المعرض، لكن لا بأس من مساءلتها عن المبلغ الذي لم تصرفه لدعم الكتاب. فهل لدى الوزارة أهمّ من الكِتاب لدعمه، وهل لديها مناسبة أهم من المعرض لفعل ذلك؟
ألم تنتبه الوزارة وهي تحتفي بالرباط عاصمة للثقافة الإفريقية أن المغرب يوجد على رأس إفريقيا، على الخريطة كما أرادت له الجغرافيا، وفي الواقع كما يسعى إليه التاريخ. وقد كان أولى بها أن تُبرز ذلك.
فلو كانت الوزارة قد صرفت ما بذمّتها من دعمٍ للكِتاب، لكانت أخرجت معظم مخطوطات الكتّاب المغاربة من ظلمات الأدراج إلى نور الرفوف، وجعلت الحديث عن الأدب المغربي يجري في حضوره لا في غياب معظمه، ولكانت بعض هذه المخطوطات، وقد صارت كتبًا، قد اعتلت منصّات الجوائز…
لقد ساءني حقًّا، كشاعر تقريبًا، أن يكون بيت الشعر في المغرب، خلال هذه الدورة بالذّات، من دون منشورات تُوقَّع في المعرض، هو الذي له فضلٌ على الشعر والشعراء في العالم أجمع من خلال مساعيه التي تُوّجت، قبل ربع قرن، بإقرار يوم عالميّ للشعر من طرف اليونيسكو.
إنّ المغرب يعيش في بحبوحة من الشعر، ومن المخجل أن تقابله وزارة الثقافة بضنك النشر.
فإذا كانت بعض القطاعات قد استفادت من دعم الدولة منذ ما قبل ظهور اللّقاح، فإنّ الثقافة ظلّت نسيًا منسيًّا حتى بعد أن خفتت وتيرة التلقيح. ولنا فقط أن نلاحظ أنّ الكتاب، وهو أسّ وأساس كلّ ثقافة، كما هو حجر الزاوية في معرض الكتاب الذي استعارته الرباط قسرًا من البيضاء، لم يستفد من الدعم منذ 2018، علمًا أنّه قبل ذلك كان يستفيد مرتين في السنة، ما يعني أنّ لقطاع نشر الكتاب في ذمّة وزارة الثقافة أربع سنوات من الدعم، لو كانت قد صرفتها، لكان الكُتّاب والناشرون المغاربة قد حضروا معرض عاصمتهم معزّزين مكرّمين كما يليق بأهل الدّار، ولكانت كتبهم هي الدليل الفصيح إليهم في الكثير من الأروقة. أما وأنّها لم تفعل، كما لو أنّ المناسبة ليست شرطًا، فضاعفَتِ العَدَم على الكِتاب بإضافة عَدَمِ الدّعم إلى عدم القرّاء، فإنّنا نقترح رفع الحرج عنها بإيلاء أمر الكتاب إلى وزارتيْ الخارجية والأوقاف والشؤون الإسلامية أسوة بالشقيقة الأرجنتين.
لا تتبادر بعض الدول إلى الأذهان إلّا مقرونة بهذا الفذّ أو ذاك من أبنائها. فبورخيس وماركيز وبّيسوا على سبيل الإجلال، إنّما هم الأحماض النووية لبلدانهم، بهم تُثبِت نسبها وتخلّده بين الأنساب.
فماذا عن الحمض النووي للمغرب؟
إنّنا نقرأ من حين لآخر عن الذكرى المئوية لرحيل هذا المفكّر، والذكرى الأربع مائة لرحيل ذلك الكاتب…فتُذكّرنا الأمم بعراقتها في الثقافة والفكر، فيما لا نصادف مثل هذا في المغرب، وكأنّ البلاد كانت، قبل مائة عام، من دون مادة رمادية تُخلّد، أو كأنّ الكاربون 14 يُغنيها عن أيّ حمض نووي.
أعود إلى كارييجو، الشاعر الأرجنتيني الذي رحل في مقتبل العمر، وحظي بالترجمة إلى العربية، بعد أكثر من قرن على رحيله، بدعم من بلاده، فكان حاضرًا من خلال ديوان له في معرض الكتاب بالرباط… أعود إليه، لأذكّر وزارة الثقافة بأنّ عليها، لا دعم الأحياء فقط من الكتّاب في بلد يعاني من نقص حادّ في القرّاء، وإنّما دعم غير قليل ممن رحلوا تاركين آثارًا لا يستقيم الحديث عن الأدب ودراسته دون العودة إليها
ففي فورة العشرين من العمر، رحل الشاعر مصطفى المعداوي (1937- 1961) في حادث طائرة حين كان عائدًا من بروكسيل بعد أن مثّل المغرب في مؤتمر للشعر هناك. فهل يعرف عنه الجيل الجديد من القرّاء؟ وهل يعرف عن “فروسية” أخيه الأشهر، أحمد المجاطي؟ وماذا يعرف قرّاء هسبريس، على كثرتهم، عن رمادها، “رماد هسبريس” للراحل محمد الخمّار الكنوني؟ وكيف سيفعل هؤلاء إذا لم تتِمّ إعادةُ طبع أعمال أولئك والتعريف بها، ولِمَ لا إقرارها في الكتب المدرسية؟
وعن نفس السّن تقريبًا، غادرنا بشكل مأساوي الشاعر كريم حوماري (1972-1997) مخلفًا ديوانًا يتيمًا في عنق الحياة، ديوانًا بعنوان: “تقاسيم على آلة الجنون”.
لقد رحل المعداوي عن سن لوتريامون صاحب “أناشيد مالدورور”، ورحل حوماري عن سنّ الشابي صاحب “أغاني الحياة”، لكأنّ الموت يتربّص بالنّبض في عنفوانه: أناشيد، تقاسيم وأغاني… وإذا كان الاثنان يشتركان في الرحيل المبكّر، فإنّهما يشتركان مع المجّاطي والكنوني في كون الأربعة من أصحاب الديوان الواحد.
وغير بعيد عن الشعر والشعراء، أذكّر بإحدى شهرزادات القصّة المغربية. فبسبب تردُّدي على فَرْشات الكتب بباب القرويّين تعرّفتُ على كتاباتها في مقتبل العمر. صحيح أنّها اعتزلت الحياة الثقافية، فاختارت بذلك قَفْلَةً لقصتها كشخص. أمّا كنصّ، فمن البُرور إصدار أعمالها الكاملة كإحدى أمّهات القصّة في المغرب. فرفيقة الطبيعة، مكانُها الطبيعي هو صدر المكتبة وليس فرشة بباب المسجد.
أمّا الاسم الذي لا يمكن بحالٍ القفزُ عليه في هذا الصّدد، فهو الراحل إلياس إدريس (1959-2013)، الذي يبقى حالة فريدة في مشهدنا الثقافي. كيف لا، والفتى بدأ ينشر قصصه ومقالاته في المحرر والثقافة الجديدة وأقلام والمدينة… وهو بَعْدُ تلميذٌ في ثانوية مولاي رشيد بفاس، حيث كان بعض زملائه يتعمّدون الاستشهاد بكتاباته في الإنشاء ودراسات المؤلفات افتخارًا به.
إلياس إدريس هو أحد مؤسسي جمعية الأقنعة للمسرح بفاس، الجمعية التي رفدت الساحة الثقافية بغير قليل من الأقلام كالزاهي وجسوس والعمراوي والحاكم والراشدي والحمومي وبودريقة والسرّاج والقرقوري والديوري والجاي…
يُذكَر أيضًا أن إلياس إدريس انتسب إلى اتحاد كتاب المغرب كأصغر عضو في تاريخه. وحين بدأ التّنكيل بالفلسفة في الجامعة، غادر ظهر المهراز صوب فرنسا حيث تابع دراسته في السينما، ومن هناك واصل الكتابة بالعربية والفرنسية في القصة والنقد والمسرح… وحتى الآن، معظم إرث هذا الرجل لم يأخذ شكل كتاب.
الأسماء التي ذكرت، إنّما هي تمثيلٌ فقط وليست حصرًا، فيمكن لغيري أن يضيف إليها من يراه يستحق.
وإذا كانت وزارة الثقافة ترصد مبالغ ضخمة لترميم هذا المبنى أو ذاك، فإنّ جمع أعمال هؤلاء وغيرهم، وإصدارها والاحتفاء بها، لَهُوَ من قبيل ترميم الذاكرة الثقافية للبلد بوصفها المعنى الذي لا معنى لأيّ مبنى بدونه، فضلًا عن أنّ كلفة هذا الترميم تكاد لا تُذكر أمام كلفة ذاك.
قبل سنوات فقط، أصدرت وزارة الثقافة الأعمال الكاملة لكلّ من الراحلين أحمد بركات وعبد الله راجع، وسيكون جميلًا منها أن تكرّر الأمر مع مَن في حكمهم، طالما أنّها لا تعدم الحيلة والوسيلة.
إنّ إصدار الكتب وترجمتها وإعادة طبعها بمرور الأحقاب هو ما جعلنا نقرأ سادة الأدب في كلّ العصور. وحسبي أن ليس الكتّاب المغاربة بأقلّ من سواهم في هذه الجغرافيا أو في ذلك التاريخ.
وفي ختام هذه الورقة، يحلو لي أن أعود إلى الأرجنتين. لا بسبب كارييجو هذه المرّة، ولا بسبب بورخيس حتّى، وإنّما بسبب العظيم مارادونا.
أقول مارادونا وأتساءل:
ماذا لو كان العربي بنمبارك أرجنتينيًّا؟