ياسين عدنان
لا تبعُد فيلا فاطمة المرنيسي القابعة على ساحل المحيط الأطلسي بمنطقة “هرهورة” كثيرًا عن شاطئ “كازينو” الساحر الأشبه ببحيرة. المسافة لا تحتاج لأكثر من خمس دقائق مشيًا، إلّا أن فاطمة كانت تُفضّل قطعها بالسيارة. قبل سنوات كانت هذه المنطقة المجاورة للرباط أشبه بناد خاص بالبورجوازية الرّباطية. لكن مدينة “تمارة” المتاخمة للشاطئ توسّعت بشكل مهول بسبب كل هؤلاء المستخدمين محدودي الدخل الذين يشتغلون في الرباط ويقطنون بها. بلدية العاصمة قامت هي الأخرى بإحداث حافلة تنقل أهالي الرباط مباشرة إلى هذا الشاطئ. وهكذا تحوّل شاطئ “كازينو” الراقي إلى فضاء شعبي تبلغه جماهير الرباط وتمارة يوميًّا بالكثير من السلاسة. البورجوازية الرّباطية التي استثمرت في فيلات “هرهورة” أُسْقِط في يدها، وصارت اليوم مجبرة على تشغيل محرّكات سياراتها للهرب من “الغوغاء” باتجاه شواطئ أبعد. أما فاطمة المرنيسي فكانت من أسعد مخلوقات الله. ظلت تسبح يوميًّا مع الشباب وتتحاور معهم وتسجّل ملاحظاتها وترصد على طريقتها تحوّلات المجتمع. كانت تشتغل تلك الأيام على موضوع “البحر وغبطة الجسد”، هي التي راقبت هذا الشاطئ مذ كان حكرًا على علية القوم. والنساء اللواتي كُنّ يقصدنه من الرباط في الزمن القديم كنّ يأتين ليغطسن أجسادهن السمينة سبع مرات في موجاتٍ سبع طلبًا للزواج أو رغبة في الإنجاب السريع. بعدها صار الشاطئ فضاءً تعيث فيه الأجساد الرشيقة حرّيةً. شباب ضاجٌّ بالحياة. عشاقٌ هنا وهناك. صبايا شبه عرايا وفتيات محجّبات يسبحن جنبا إلى جنب، وفاطمة المرنيسي تسبح إلى جوارهن وتطاردهن بأسئلتها: “ألا يزعجك هذا الثوب؟ ألا يضايقك الحجاب أثناء السباحة؟ تبدين أكثر إثارة في هذا الجلباب الشفاف الجميل؟ لماذا اخترتِ هذا اللون بالذات؟” كانت تجيد دغدغة أنوثة الصبايا لذلك يُجِبنها بالكثير من التلقائية والغبطة. وفاطمة كانت سعيدة على الشاطئ. سعيدة كطفلة. تسبح يوميا وتشتغل. ترفض الذهاب إلى أمريكا بسبب كل الحروب التي شنّتها على المنطقة العربية. ترفض ركوب الطائرة لحضور مؤتمرات غير مجدية. وتفضّل البقاء في “هرهورة” حيث الحياة في لون البحر.
حين أخبرتُ فاطمة المرنيسي على الهاتف بأنني قضيت جزءا من “آب” اللهَّاب تحت سماءٍ اسكندنافيةٍ ممطرة تعاطفت معي ودعتني إلى شمسها. أعطتني مفتاح شقة الضيوف – شقة صغيرة ونظيفة ببلكونة يصطخب الموج تحت شرفتها- ودعتني لمرافقتها إلى الشاطئ. السباحة في سبتمبر شيء مذهل، لكن برفقة المرنيسي كانت المتعة مضاعفة. حاولت ذات صباح أن أحتال قليلا فاقترحتُ عليها أن نخصّص بعض الوقت لإجراء حوار هادئ حول مسارها الحافل ومشاريعها الجديدة. لكن صاحبة (الحريم الأوروبي) سرعان ما قطّبت جبينها وبادرتني: “أدعوك لتستمتع بالسباحة والشاطئ وأنت تأبى إلا أن تُخرِّب عطلتي”. قالتها بنبرة عتاب وهربت إلى البحر. قلت في نفسي: لتذهب كل حوارات العالم إلى الجحيم. وجرجرت قدمي أنا الآخر باتجاه أو موجة. كانت فاطمة مستغرقة في الحديث مع أب وطفله، وتغطس من حين لآخر. تسبح قليلا ثم تعود لتستأنف الحوار معهما. لم تكن فاطمة المرنيسي في عطلة. الذين يعرفونها جيدا يقولون إن صاحبة (الجنس كهندسة اجتماعية) لم تذق طعم العطلة منذ سنوات. كانت هناك لتشتغل. حتى وهي على البحر كانت تشتغل. بعد لحظة لمحتُها تسبح باتجاهي وبريق خاص يشرق في عينيها: “هل تعرف ماذا أخبرني ذلك الطفل؟”. لم أكن أستمع إلى حديثها. كنت فقط أفكّر: نحتاج الكثير من غبطة الرّوح لنكتب عن غبطة الجسد. وفاطمة المرنيسي كاتبة انخرطت بكل جوارحها وحواسّها في الموضوعات التي اشتغلت عليها. إنها عالمة اجتماع عرفت منذ البداية كيف تقارب موضوعاتها بوجدان شاعرة. ولهذا كانت عالمة الاجتماع العربية الأقدر على إمتاع القارئ.