إدريس الأندلسي
دخلت سوق الخضر و الفواكه الشعبي الذي كان دائما رحيما بجيوب محدودي الدخل فسمعت كلاما مصدره لون أحمر ينادي : ” أنا هنا مزهوة برؤيتكم يا أبناء بلادي “. دب الشك في قدراتي السمعية، لكن اللون الأحمر جذبني و كان لقاءا من تلك اللقاءات التي افتقدتها منذ سنين. رأيتها في أبهى حلة تريد أن تدخل كل بيت و تسعد ربات البيوت. باستغراب سألتها: ” كيف حالك أيتها المهاجرة كلما انتزعتك الأيادي من أرضنا الطيبة” .زاد احمرارها خجلا من أبناء أرضها و ألقت باللوم على كبار فرضوا عليها الاغتراب عبر شاحنات و بواخر و باعوها للأجانب. اعترفت لي أنها كانت مجبرة لا مخيرة و أنها لم ترد أبدا مغادرة تربة تربت عليها و عيون سقتها و عرق سال من جبين إنسان أعطاها الجهد الجهيد.
كلما رأيتها احييها بكل تقدير و زادت قوة تحياتي لها حين رأيتها ترتاح و هي تعانق أهل الدار و تزين الموائد. إنها المعشوقة السيدة ” مطيشة” . وصلت هذه الأيام في أبهى حللها إلى أسواقنا بسعر رخيص مؤقتا. سألت أهل السوق من الشرفاء العاملين عن سبب هذا التواجد الجميل لمطيشة فأجابوا أن السوق أسواق و السياسة تصل إلى حد رفض التأشيرات على صادرات الخضر و الفواكه. تمنيت من الأعماق أن تقطع الطريق نهائيا على صادراتنا مما تجود به أرضنا الطيبة و فلاحونا الطيبون و أن يتم منع دخول أية باخرة صيد أجنبية إلى بحار بلادي. دعوني استسلم للحلم الوطني…
المناسبة يا أبناء هذه الأرض المعطاء هو أننا نعيش في ظلم كبير. مياه سدود المغرب و كرم تربة المغرب و العمل الشاق لفلاح المغرب لا يستفيد منه المغاربة ذوى الدخل المحدود إلا في الحدود الدنيا. عندما يسافر مواطن مغربي إلى الخارج يتفاجىء بجودة منتوجات بلاده و يقارن هذه الجودة و حتى الأسعار بما يلاقيه في أسواقنا الداخلية و خصوصا في الأسواق الكبرى التي تخدم مصالح كبرى و تستجيب لقوة شرائية كبرى.
و السؤال الأكبر و الذي زادت قوته مع تدهور القوة الشرائية ٤
لأغلب المغاربة يمكن تلخيصه في : ” من يستفيد من خيرات و أموال و أراضي و مقدرات الوطن؟” . و الجواب يتطلب طرح الكثير من الأسئلة المحرجة عن نتائج سياسات عمومية كلفت الملايير من الدراهم و استنفذت الكثير من الموارد الطبيعية و الجهود و الموارد البشرية. و لمحبي الأرقام صرفنا عشرات الملايير من الدراهم على المغرب الأخضر و إبنه المفاجئ “الجيل الأخضر” الذي فتح أبواب الأمل للكثيرين من الفلاحين البسطاء لتغيير جذري للقطاع الإقتصادي الأول في بلادنا و لكن الانتظارات لا زالت كبيرة جدا. كانت الأهداف الكبرى تمنينا برفع الإنتاج الفلاحي ليصل إلى أكثر من 20 % من الناتج الداخلي الإجمالي و خلق مليون و نصف منصب شغل و تغيير وضعية الفلاح الصغير ليستفيد من بنيات و تمويلات و مساندة ما كان يسمى بالدعامة الثانية للمغرب الأخضر و هي الركيزة التضامنية. قيل أن كل الجهود ستنصب على ربط الاستهلاكيات الفلاحية الكبرى بالضيعات الصغيرة لكي تقودها إلى التكنولوجيا الجديدة و ووسائل الإنتاج و تقوية المردودية. و ظل هذا الهدف سرابا. و استفاد الكبير و اكتفى بالدعاء للصغير خلال موسم فلاحي يغطي حاجياته الأولية و كفى.
المشكل هو أنه أصبح من غير المحبذ الكلام عن الفشل الظاهر في غياب دراسات لتقييم سياسة فلاحية كلفت وقتا سياسيا و مجتمعيا و أموال عامة و تسهيلات ضريبية بالملايير من الأموال العامة. و في الأول و الأخير يقال أن منتوج أرضنا مطلوب في الأسواق الخارجية مطلوب و أن أرقام الصادرات مهم. و الأمر غريب و غير مقبول. نعم نصدر الغذاء و لكننا نستورد الكثير من المواد الغذائية و بأسعار أغلى. نصدر مياهنا الجوفية و جودة تربتنا و جهد مزارعينا و تكلفة البذور و السقي فوائد القروض و استهلاك التجهيزات المستوردة و نجد أنفسنا غير قادرين على إنتاج قمحنا رغم سعة أراضيها الصالحة للزراعة. كل هذا في الوقت الذي نقتل فيه خصوبة أراضيها و نضعف فيه فرشتنا المائية من أجل تصدير الأفوكادو و البطيخ الأحمر و التوت الأحمر و غيرها من الزراعات ذات الخطورة العالية على التنمية المستدامة. هذا ما اغرى بعض الصهاينة من الاقتراب من أراضيها لتكثيف استنزاف خصوبتها. أعترف بكل وعي أنني صدقت كل النوايا و حاولت أن اتخلص من كل نواقض الإيمان بالسياسات العمومية القطاعية التي قاربت العشرين سياسة غير متساكنه عبر ما يسمى بالالتقاءية . كتبت مقالات بلغة موليير عن المغرب الأخضر و فتنت في البداية بتنظيم المعرض الدولي الفلاحي بمكناس و حضرت ندوات “علمية” كانت جميلة التنظيم و التحليل. و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. و توقف الإحتفال باللاشيء و التحق مهندس المغرب الأخضر و الجيل الأخضر برئاسة الحكومة و غاب الكلام عن تقييم تحقيق الأهداف الفلاحية. انتشر البطيخ الأحمر و غيره من الفواكه و الخضر الموجهة للمستهلك الخارجي و نضبت عيون و تناقصت فرشات مائية و زادت حدة الجفاف و أصبح استيراد القمح هدفا استراتيجيا بامتياز. اسمحوا لنا يا معشر الخبراء الذين لا علاقة لهم بالأرض و بعمل المزارعين أن نقول لكم أن الأرض لا تخلص للأغبياء و لكنها تغني الأوفياء. فارحموا أهل الأرض و ارحلوا بجهلكم لأنكم لا تمتلكون العلم و لكنكم تجسدون فقر تكوينكم عبر عروض مصورة فيها أرقام و بيانات كاذبة و سريعة الانتشار. المغاربة يحبون اللون الأحمر الذي يجسد لهيب الأسعار و الظلم و الفوارق الإجتماعية و المجالية و لكنهم يقدسون تلك النجمة التي تتوسط لهيب لوعتهم. ارحلوا يا أصحاب الحلول السهلة و المذرة للدخل الكبير على كبريات مكاتب الاستشارات و المنفتحة جدا على كبريات الشركات الرابحة في كل المجالات في الحياة و بعد الممات. و الصالح من العمل أبقى و أكثر تحصينا للوطن الواحد الموحد في ظل سلطة ارتضاها المغاربة منذ قرون لتنصفهم من غدر الحاقدين و المستبدين و المنتفعين و ناقضي العهود و أصحاب المصالح الآنية في كل ما يزيد الثروات و يقوي النعرات و لا يهتم بالغد في زمن الأزمات. و لهؤلاء نقول ان دراساتكم ” الخاوية” لم تتوقع بعد سنين من تحصيلكم لأرباح كثيرة أن المغرب استورد حوالي 60 مليار درهم كمواد غذائية في 2021 حسب مكتب الصرف. أما الصادرات من الغذاء و المشروبات و التبغ ( و الأمر هنا لا يتيح المقارنة العلمية) فقد قاربت 63 مليار درهم في نفس السنة. هل وضعنا سياسة و تمويلات و جندنا مؤسسات و تحفيزات من أجل مجرد تغطية صورية للميزان التجاري الغذائي و فرطنا في ما هو أهم و المتمثل في الاكتفاء الذاتي الغذائي وستزيد التمويلات للكبار من الفلاحين على أكثر من 30 مليار درهم خلا سنة 2023 . صناديق تغطيها حسابات خصوصية و تحفيزات ضريبية بالإضافة إلى مخصصات الميزانية العامة دون نسيان دعم صندوق المقاصة للغاز ” الفلاحي” بالملايير. و لا حياة لمن تنادى لمن سخروا التقنوقراط الجدد لخدمة مصالحهم بوعي أو بدون وعي. المشكل كبير يا ” مطيشة ” بلادي التي تهاجر الجميلات من بينها بسعر رخيص و ترافقنا الأقل منهن جودة في رحلتنا اليومية أو الأسبوعية لملء قفة أصبحت شاهدة على كل الفوارق الإجتماعية. و كخاتمة أكد لي كثير من الأصدقاء أنهم فرحوا مرحبا لتواجد مؤقت للا مطيشة بيننا بنكهتها و جمالها و عبيرها و بسعرها الأكثر رفقا بالجيوب المهلهلة أصلا.