آخر الأخبار

مـحـمـد الـمـنـونـي الـفـقـيـه والـمـؤرخ

المبارك الگنوني 

أنعم الله تعالى على هذه البلاد بإنجاب عدد كبير من العلماء الذين تميزوا في مختلف الميادين: كالسياسة والأدب والتاريخ والعلم والفن، وما إلى ذلك من المعارف .. وقدموا لبلدهم خدمات جليلة يعرفها العام والخاص على مستوى العالم العربي والإسلامي.هناك ثلة من أعلام الدارسين قاموا على حراسة تراث المغرب وجاهدوا في سبيل خدمته، وكشفوا عن جوانب فذة من عطائه، وسلكوا بذلك دروبا مضنية.فعندما نذكر كلا من حسن حسني عبد الوهاب، ومحمد أبو شنب في تونس والجزائر، تبرزشخصية العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني بجلاء لدوره وتأثيره العلمي والمعرفي. أو كما وصفه الأستاذ عبد الحق المريني مدير التشريفات الملكية في الرباط بأنه “الخزانة العامرة التي تتحرك على قوائمها في شمم وإباء…عرف العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني، بجهوده الكبيرة في البحث العلمي التاريخي، وتقصي خزائن التراث المغربي، وإبراز مزاياه وخصوصياته في ميدان التراث العربي والإسلامي، فكان مرجعا هاما وأساسيا ومصدرا للخبرة والضبط والتوثيق.فقد أمضى حياته من مطلع شبابه إلى آخر أيام حياته في البحث والدراسة والتأليف والإفادة.

نموذج العلامة محمد المنوني (1915- 1999) ذو دلالات كبيرة باعتباره من أهم من ساهم فعليا، في ميدان البحث التاريخي، في صياغة الذاكرة الجماعية والحضارية للمغرب.لقد كان تكوين هذا الرجل انعكاسا صادقا لتوهج المدرسة التي انتمى إليها، تلك التي تتآلف فيها الأصالة مع أفضل معطيات الحداثة، فتتيح لخريجها متانة غير عادية في التكوين التراثي مع قاعدة صالحة للبناء عليها ثقافيا، عبر استكمال المسار المنهجي في صيغته الأكاديمية.محمد بن عبد الهادي بن محمد المنوني، علامة وفقيه، ومؤرخ رائد في تاريخ المغرب وحضارته، وبحاثة من الطراز الأول في التنقيب وفهرسة وتحقيق المخطوطات والمصادر والوثائق التاريخية النادرة والغميسة. ويعتبر في عداد الرموز الثقافية والرعيل الأول من الفقهاء والأساتذة، أمثال: عبد الله كنون، وعلال الفاسي، والمختار السوسي، ومحمد الفاسي، ومحمد داود، وعبد الرحمان بن زيدان… كما أنه أستاذ لأجيال متعددة من الباحثين في تاريخ المغرب، وهو أيضا مؤلف متعدد المواهب والمعارف، وساهم بشكل كبير في إغناء المكتبة المغربية وخاصة في تاريخ المغرب وحضارته. وقد كانت معرفته بمصادر تاريخ المغرب وبما تحتويه المكتبات في المغرب من أنفس المصادر التي تهم تاريخ المغرب وحضارته؛ سواء كانت مكتبات عامة أو مكتبات خاصة، وفي مختلف المدن المغربية، الأمر الذي أهله ليكون خبيرا متمكنا في شؤون المكتبات المغربية. وقد انعكست خبرته تلك في مجال التأليف والنشر الذي نشط فيه المنوني بشكل كبير مقدما خدمة لا تضاهى في مجال التنقيب عن مصادر تاريخ المغرب، وفهرستها وتوظيفها في أبحاثه بشكل مكثف.

هذا الرجل الذي كان تكوينه انعكاسا صادقا لفعالية المدرسة التي انتمى إليها، مدرسة المجتمع الذي ينتمي إليه، تلك التي تتآلف فيها بلا خصومة: الأصالة مع أفضل معطيات المعاصرة، فتتيح لخريجها متانة غير عادية في التكوين التراثي مع قاعدة صالحة للبناء عليها ثقافيا، عبراستكمال المسار المنهجي في صيغته الأكاديمية.ولعل فاعلية هذه المدرسة تثبت كأجلى ما يكون في الجانب التاريخي من شخصية المنوني متعددة الأبعاد، وبالغة الثراء، فإذا كانت أهم نقاط الضعف التي تواجه تقليديا مسار التأريخ، ليس فحسب في المغرب، وإنما في عالم العرب والمسلمين، هي أن المحدد السياسي هو الذي ينتج التاريخ، فيكون التاريخ العام هو نفسه تاريخ الدولة، بما يعتمل فيها من تفاعلات تبلغ مبلغ الصراع أحيانا حول مشروعية السلطة وقوة التغلب اللازمة لتسنمها، فإن المنوني كان المثال الذي استطاع أن يثبت التعدد الغني في مادة التاريخ الحضاري للمغرب خصوصا. فاهتم بأكثر جوانب الحضارة المغربية، توثيقا وتأريخا.

كتب عن “(العلوم والآداب والفنون) في عهد الموحدين” (1950) وعن “(الحضارة المغربية) في عصر المرينيين” (1980)، كما كتب عن الظواهر الجزئية لتشكل الحضارة فأرخ مثلا للوراقة المغربية (منشورات كلية الأداب 1991).غير أن ذلك لم يكن كل ما شكل عناصر المثال، فالمسألة التي صنعت فرادة “النموذج المنوني” هي أنه سلك طرقا جديدة في بناء المتن التاريخي، بدت له قادرة على إعطاء الإنسان المعاصر صورة أمينة لما تختزنه تلك الذاكرة الجماعية للمجتمع، فاستعمل النصوص المتنوعة في بناء وصياغة المادة التاريخية “التاريخ الأندلسي من خلال النصوص” (1991)، ثم كان تتويج هذا المنهج من خلال توسيع مجال نظر المؤرخ إلى غير المصادر التاريخية المعروفة، حين استثمر مادة التاريخ الاجتماعي للمغرب كاملة: رحلات ومذكرات وحواشي ومراسلات، بل و(تقاييد) لم تكن ترى إلا بوصفها خواطر ومشاهدات ويوميات شخصية لأصحابها، تقرأ إما للاعتبار بجوانب الصلاح أو لاستمداد حكمة فلسفية من تجاربهم الحياتية، أو للتسلية النابعة مما تحويه من نوادر المواقف وطريف الأحداث.لقد كان الاتجاه البحثي الذي أسسه المنوني في الحقل التاريخي كأجلى ما يكون اتجاه في الدراسة والبحث، هو الاهتمام بتركيز المعرفة التاريخية في صيغة مصادر قادرة على أن تكسب الأدوات التي يحتاجها الباحث، فتكون بالنسبة له مداخل إلى مجال المعرفة التاريخية مادة ومنهجا، ومن هنا اهتمامه بجمع وتنظيم مصادر البحث التاريخي (المصادر العربية لتاريخ المغرب 1983) سواء أكانت فهارس (فهارس مخطوطات الخزانة العامة بالرباط1974) و(فهارس مخطوطات الخزانة الحسنية 1983)، أو أدلة (دليل مخطوطات دار الكتب الناصرية بتامكروت 1985).أما المخطوطات فقد كان محمد المنوني سابر أغوارها بحق، والرجل الذي أخرج مئات منها إلى النور، ميسرة لمن يأتي بعده من الدارسين والباحثين، وما استطاع أن يغالب متعته في الكتابة عنها، رغم انشغاله الشديد عنها بها إخراجا وتحقيقا فجاء كتابه “قبس من عطاء المخطوط المغربي” الذي صدر في ثلاثة مجلدات (1999).

وإذا صح لنا أن نختار من المكتبة الكبيرة التي خط يراع محمد المنوني ما يمثل معلم تجربته في الكتابة التاريخية، فلعله يكون كتابه “مظاهر يقظة المغرب الحديث” الذي صدر في جزئين (1985)، ليس لأنه خلاصة بحثية راقية لجهد سنوات من العمل والتنقيب في تلك المظاهر من مصادرها المختلفة فحسب، بل لأن هذا الكتاب/المعلمة ربما صح إدارجه في خانة المصادر المعاصرة النادرة في فلسفة تاريخ المغرب، من حيث استنباط قوانين النهوض وتجلياته العامة من خلال الأمثلة الجزئية المبثوثة في مضانها المختلفة. إن محمد المنوني الذاكرة هو في الواقع تحد للجهد البحثي والأكاديمي المعاصر في غير مجال، يتربع تاريخ المغرب على صدارتها، إذ استطاع أن يجمع إلى ثراء عناصر الذاكرة، رصدا أمينا في دقته وعلميته، ومنهجا صارما وفعالا في تعرف تاريخ المغرب.

إن جيلا من الباحثين والدارسين من أساتذة الجماعات الحاليين يرجع الفضل بعد الله في عشقهم للبحث العلمي والعمل على خدمة التراث للأستاذ المنوني الذي مهد لهم الطريق، وقربهم من الموارد وفتح أعينهم على طرق البحث وأمدهم بما تزخر به مكتبته العامرة بنفائس المصادر ولسان حاله يقوله :

كتبـــى لأهـــل العلـــم مبذولــة**أيديهم مثل يدي فيهــــا
متـــى أرادوها بلا منة**عارية فليستعيروهـــــا
حاشاي أن أكتمها عنهم**بخلا كما غيري يخفيهـــا
أعارنا أشياخنا كتبهـــم**وسنة الأشياخ نمضيهـــا

قال عنه الأستاذ “عبد الله كنون”: يهجم على موضوعه ولا يتناوله من ذيوله وأطرافه بل يقصد إلى اللب والصميم، ويترك اللف والدوران فهو “يطرح المسائل التي يطرحها أي مؤرخ معاصر دون أن يتيه في الجزئيات والهوامش ولا أظن أن هذه القدرة على استجلاء الأهم تاريخيا والتركيز عليه مشاعة بين المؤلفين المغاربة إلى حد أنها لا تستحق التنويه بها عندما نجدها واضحة على الحال الذي هي عليه عند الأستاذ المنونـــــي”.وقال عنه المفكرعبد الله العروي في ندوة تكريمه: «إن الأستاذ المنوني تلقى تكويناً أصيلاً، ولم يطلع – حسب ما أعلم- في الأصول على نتاج المدارس التاريخية الغربية، ورغم هذا عندما نقرأ له، فإننا نجده يطرح المسائل التي يطرحها أي مؤرخ معاصر دون أن يتيه في الجزئيات والهوامش».

توفي العلامة محمد المنوني يوم السبت 16 جمادى الأولى عام 1420ه/28 غشت 1999 بمدينة الرباط ووري الثرى بضريح جده علي بن منون بحي روى مزين بمدينة مكناس عصر اليوم الموالي. وخلف رحمه الله- خمسة أنجال، بنتين؛ وهما رجاء وفوزية، وثلاثة أبناء؛ وهم: محمد عبد الهادي، ومحمد عز الدين، ومحسن.