سـعـد سـرحـان
يستطيع قُطّاعُ الطّرق أن يَسْلُبُوا المرءَ بعضًا مِمّا يملك.
يستطيع النّصّابون أن يرموا بثريّ إلى قارعة الإملاق.
يستطيع القساة أن يغتصبوا ويقتلوا.
يستطيع الطّغاة أن يبطشوا وينكِّلوا ويُبيدوا.
يستطيع مصّاصو الدّماء أن يكنزوا ثروة منها.
يستطيع القتلة أن يقطعوا حبال الحياة ويزجّوا بدلائها في بئر العدم التي بلا قرار.
يستطيع الجلّادون أن يُجبروا الحقيقة على الكذب.
يستطيع الهمج أن يحرقوا المكتبات وينهبوا المتاحف ويحطّموا التماثيل والأيقونات.
يستطيع تجار الأسلحة أن يجلسوا إلى صيارفة الحياة في بورصة الخراب.
يستطيع غِلاظ الروح أن يحرقوا الزرعَ ويجتثوا الجذعَ ويقطعوا الضرع.
يستطيع السّجانون أن يمنعوا نسمة الهواء وأشعة الشمس وزرقة السماء.
يستطيع عبيد الظلام أن يحاكموا سادة الضوء.
يستطيع بعض الحواة حتى أن يجفّفوا النهر ويسبحوا فيه متى شاءوا.
…لكن،من يستطيع أن يجرّد عبقريًّا من هالته الخالدة؟
من يستطيع أن يُخرس حكيمًا وقد فاه بآيته؟
من يستطيع أن يمحو فنّانًا فذًّا من سجلّات الذهب؟
…لا مطرقة الظّلم استطاعت
ولا كأسُ الشَّوْكَرانْ
فها هو سقراط الآنْ
أكثر حياةً
من قضاة أثينا
وها هي الأرض
أرض غاليليو وماجلّانْ
مع ذلك ما زالت تدور
حول الشمس
بما حملت من محاكم ومعابد
ومن منافٍ وأوطانْ
لا المحارقُ
لا المشانقُ
لا سيوف الأصلافِ
لا مقاصل الأجلافِ
لا المنعُ ولا القمعُ
لا النّطعُ ولا قطعُ اللسانْ
…فكل الذين أُخرِسوا
لحاجة في نفس السلطانْ
هاهم
يتحدّثون الآنْ
بكلّ اللغاتِ
ففي كلّ الجهاتِ
لهم ترجمانْ.
إنّ معظم الذين نستشهد بأقوالهم ونسترشد بأفكارهم، من ذوي العقول الخلّابة والأرواح النبيلة، تعرّضوا بهذا القدر أو ذاك للتنكيل. ولعلّ جزءًا كبيرًا من صرح الحضارة الإنسانية يقوم على الرماد والأشلاء التي انتهى إليها غير قليل من الأفذاذ من مختلف الجغرافيات والعصور. فسَدَنَة الظلام وُجِدوا دائمًا وفي كلّ مكان. وحمايةً لهياكلهم، أنشأوا المتاريس وهيّأوا التروس… حتى لا تصاب دريئتهم ولو بشعاع ضوء.وعلى ذكر الضّوء، أُذكّر بأن عاصمة الأنوار، باريسَ، أعدمت، في مفارقة لا تُنسى، أحد مصادره العظيمة: أنطوان لافوازييه. فهذا العالم الفذ، الذي أحدث نظامًا لإنارة المدن، والذي كان معروفًا بأبي الكيمياء الحديثة، إذ كان يرى العالم عبارة عن مختبر كبير، حوكم عقب الثورة الفرنسية، وأُعدِم، كما جاء في حيثيات الحكم، انتصارًا للعدل على العلم، فخسرت الجمهورية الإثنين معًا.لافوازييه وغاليليو وسقراط كانوا أكثر حظًّا، إذ عرضوا على محاكم الظلم التي زجت بأسمائهم، دون أن تدري، في سِجِلّ الخلود. أمّا غيرهم، وهم بلا حصرٍ في كلّ مكان وكلّ عصرٍ، فقد داستهم أقدام الاستبداد، ولَاكَتْهُم أفواه السَّوَقَة، واستصغرهم السَّفَلَة، وتطاول عليهم صِغار الشّأن، وسَامَهُم العذابَ غِلاظُ القلب… وعزاؤهم، إن كانوا في حاجة إلى عزاء، أنّهم لا يُذكرون الآن إلّا وأسماؤهم مكلّلة وأعمالهم مبجّلة….صحيحٌ أنّنا تقدّمنا كثيرًا، لكنّنا تأخّرنا كثيرًا أيضًا، فلولا التّقتيل والتّنكيل اللذين تعرّض لهما أفذاذ البشريّة على مرّ العصور، لكانت حضارتنا قد وصلت قبل قرون إلى ما وصلت إليه الآن. فالطغيان كان دائما العبء الأكبر الذي أبطأ مسيرة الإنسان نحو منصّات الضوء.