رحلة بدون هوية، ولا بوصلة. (1)
دخل القرية بعد سبع ساعات من السفر المتعب ، وهو يكتشف المنطقة لأول مرة ، جبال عالية بها مسالك وعرة غير معبدة تضيق فيها الأنفس من شدة الخوف ، إنتشار شجرة أركان لصلابتها تعبر عن قوة تمسك ساكنتها بالأرض بل ذهب البعض لإضفاء قداسة روحية على منتجها مادامت تعالج بعض الأمراض المستعصية. أما نبتة الدغموس فقيمة عسلها لوحده الذي لاتناله الأيدي لغلاء سعره من شدة الطلب عليه . إسم القرية لوحده يحمل ألغازا وابعادا اسطورية إنها ” إگالفن ” تتوسط الجبال بشموخ تحرسها أعلى قمة إنه جبل “إيغير ” والتي تعني ” الكتف” گأنها عروس في ليلة زفافها من غريب الصدف ألاتصل أشعة الشمس لسهلها الممتد على الوادي إلا بعد سويعات وتغادره مبكرا بعد العصر ، إنها قرية استثنائية بسحرها وعبقها تختلف عن الباقي ، يفسر إسمها تارة ب “إنه الفن ” ومن جهة أخرى تعني ” ضيعة الحلاليف” قرية بعيدة ومنزوية تحت قدم الجبل يسكنها الصمت والسكون لحد يجعلك تخالها بدون ساكنة لكن ماإن تدخلها حتى تشهد جلبة غير عادية. اطفال من مختلف الأعمار يلعبون قرب مدرسة في مكان معزول مجاور لمقبرة مهجورة ونبات الصبار الذي غطى بشكل فوضوي المكان وبنات يستغلن عملية جلب الماء ليتحلقن حول البئر الرئيسية بالمكان من أجل نقاش يتناول أسماء اغاني جديدة وألبسة جلبت من السوق غالبا مايكون لونها فاقع مثير للرؤيا وغير عادي وآخر صيحات الأساور الذهبية والفضية منها التي تزخر بها المنطقة . أما متقاعدو القرية فمجلسهم قرب المسجد للتداول في الأمور التي تهم البلدة أمر ضروري. والشباب منعزلون في الهامش يتحلقون حول آلة تسجيل تزاوج بين أغاني الراي ومجموعة إزنزارن الشهيرة والروايس في مشهد لانتزاع إعجاب الفتيات كل هذه المشاهد لم يستوعبها الزائر الجديد وقد يحتاج لكثير من الوقت من أجل فك شفراتها والتأقلم معها. إنه عالم جد مختلف عن مدينته وحيه التي غادرها مكرها وأمه تذرف دموعا خفيفة وهي تغالب لحظة عاطفية صعبة لأول مرة تعيشها تتجاذب فيها لوعة الفراق مع فرحة تبدو مستترة بأن سعيد الطفل المشاغب في الأسرة قد أصبح رجلا مسؤولا وموظفا لدى الدولة . وأخوه محمد الذي يصغره بسنوات قليلة يحمل معه بعض الأمتعة فوق دراجته العادية رتبتها الأم بعناية لكي تخفف على إبنها مشقة الإستقرار في أرض الغربة وتساعده على الإنطلاق. أمر عجيب وعميق في دلالته البيداغوجية حين يلتفت الإبن إلى تلك الأواني من أجل استعمالها فترجع به الذاكرة إلى لحظات حميمية مع الأسرة،تتوالى الصور مرتبة كشريط فيشتد الحنين ويتضاعف. لم يجد سوى بيت محاذي للمدرسة حيث سلمه شيخ القبيلة مفتاحه ، أو كما هو متعارف عليه بين السادة الأساتذة “لفرعية ” أو كما يسميها السادة المدراء الوحدة المدرسية. إنها موضوعة بعناية وذكاء شديد. لايمكن الوصول للمدرسة دون المرور من الشارع الرئيسي الراقب وهي موضوعة فوق ربوة لايمكن أن تضيع من خلالها متابعة من يعمل بالداخل. وهنا تحضرني فكرة أن الغريب لايمكن أن تطمئن إليه القرية إلا بعض مضي سنة كاملة تسمى” الستاج الإجتماعي” ومدى قدرته على الإندماج. حيث تكتمل الصورة حوله من خلال عمله وسلوكاته وهل سيضمن بقاءه داخل هذه الرقعة أم سيغادرها إلى وجهة مجهولة. والخطير في الأمر مادامت المنطقة لا تتوفر سوى على وسيلة واحدة تغادر القرية الرابعة صباحا وتعود الساعة السابعة مساء فأمر احتضانه من طرف الساكنة يبقى بيده ومدى انضباطه للأعراف.
ذ ادريس المغلشي.