أولا: إذا كانت الماركسية قد شددت على الطبيعة الأداتية الطبقية للدولة، فهي لم تنكر قط أدوارها الكبرى في الحفاظ على وحدة التكوين المجتمعي وإنمائه، أي بحسبان “الدولة مجالا عاماً” أيضا.
ثانيا: يمكن الفصل نظريا بين السلطة (المجال السياسي الخاص) وبين الدولة (المجال البنيوي العام)، لكن هذا الفصل يحتاج دائما إلى وصل في أي تعيين لنظام اجتماعي محدد. فليس هناك دولة بلا سلطة تخدم مصالح كتلة اجتماعية معينة. وهذا حال جميع الدول، بما فيها الدول الليبرالية المتقدمة اليوم. وهذه الخلاصة موجهة بالضبط ضد الوثنية الأيديولوجية الليبرالية السائدة في هذا العصر التي تتستر على المصالح الطبقية التي يخدمها نظامها الليبرالي.
ثالثا : إن النقد الرئيس الذي وجهته الماركسية للدولة الليبرالية وللمجتمع البورجوازي، كما كان يسميه ماركس، ليس إلغاءً للديمقراطية الليبرالية، وإنما لقصورها التاريخي، لكون المجتمع المدني الناجم عنها يكرس انشقاقا بنيويا بين المواطنة السياسية القانونية، والمواطنة الاجتماعية البنيوية، أوبين “المجتمع المدني” و”المجتمع الإنساني” الذي تشده الماركسية. أما تشديد الماركسية على العنف الثوري في انتقال السلطة للبروليتاريا، فقد كان في ظروفه التاريخية مبدءا دفاعيا دائما، وليس مبدءا مطلقا، مواقف ماركس في الانتقال الديمقراطي الممكن في أمريكا وبريطانيا وغيرهما خير شاهد على ذلك.
رابعا: لم تتحقق ديكتاتورية البروليتاريا ولا خلاصات ماركس من كومونة باريس كما تصورها (وكما تصورها لينين أيضا). فلقد كان هذا التصور في مجموعه إذن أكبر من تعييناته التاريخية. وعلى الرغم من أن دور البروليتاريا صار وإلى زمن غير يسير واقعا حيا وحابلا بتوقعاته.. إن ما جرى عكسيا في الحصيلة لا يسقط معه التصور المادياني للتاريخ، كما لا يعطي لأشكال تنظيم الدولة الليبرالية ضمانة تاريخية مطلقة ونهائية.
خامسا: قيل الكثير من النقد المعاصر لأطروحة ماركس في “اضمحلال الدولة”، ومفاده، أنها مجرد طوبى لا غير، وحتى أنها طوبى خَلاصية لترسبات دينية في العمق. لن ندخل في تفاصيل هذه الانتقادات، ولا في تحديد ما عناه ماركس من هذا الاضمحلال، وإنما سألفت نظركم إلى أن مناقشات جديدة تجري حول مصير الدولة الوطنية في زمن العولمة والثورة التقنية المتسارعة، وما يفضي إليه ذلك من تنقيص مضطرد لمفهوم السيادة الوطنية. ومن هذه المناقشات من أضحى يرى أن التطور الموضوعي لهذه الدينامية التاريخية سيرجح، إن لم تكسره عوائق طارئة كالحروب مثلا، إلى نشوء حكومة عالمية في الأفق البعيد. وبدون تفاصيل إضافية، فإن هذا الجدل لوحده يؤكد أطروحة ماركس في أن التطور الموضوعي للمجتمع هو مصدر الدولة، وأن لا صنمية لأي ظاهرة اجتماعية ومنها الدولة، فأشكالها ومضامينها قابلة للتغيير أيضا.
الملاحظة الخامسة: أي موقع للراهن الرأسمالي المعولم في التصور المادياني التاريخي؟ الشهادة التي جعلت منها نافذة ما كان لها، بطبيعة الحال، أن تمدنا بتصور عن الراهن الرأسمالي. لكن تصورها المادياني يبقى هو الأساس في فهم هذا الراهن. ونحن نعرف، أن ماركس خص جل جهوده الفكرية في اختبار هذا التصور في بحثه الفريد، رأس المال، كما كان في عصره. والسؤال، هل مازال بحثه هذا يحتفظ على حيويته في عالم اليوم ؟
محمد الحبيب طالب